أمعنت النَّظَرَ فِي وَاقِعِ الْأَمْصَارِ الْمُسْلِمَةِ
فَوَجَدْتُهُ أَبْعَد مَا يَكُونُ عَنْ الصُّورَةِ الَّتِي خَطْهَا الشَّارِعُ
لِلْجِهَادِ؛ وَلِذَا فَإِنا نَرَى أَهْلَهُ فِي رُجُوعِ فَهَقَرِيٌّ عَلَى كُلِّ
صَعِيْد بَعْـ أَذْعَرُوْا عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ، وَأَظْهَرُوا
فِيْهِمْ الْحَمِيَّةِ وَالطَّيْشِ، وَجَاؤُوهُمْ بَخَيْلِهِمْ وَرَجَلِهِمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمَنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، يُطَارِدُونَ دِينَهُمْ، وَيُرْهِقُونَ
أَرْوَاحَهُمْ، وَيَنْتَهِكُونَ أَعْرَاضَهُمْ، وَيَنْتَهِبُوْنَ أَمْوَالَهُمْ، فَرَأَيْتُ
لِزَامَاً عَلَيَّ أَنْ أُجَلِّيَ الْحَقِيقَةَ لِشَبَابِ الْإِسْلَامِ عَنْ
مَاهِيَّة الجهاد وبواعثه وَمَالَاته.
الجِهَادَ حَافِظٌ للمقاصد آنفة الذِّكْر( حِفْظُ ِالدّينِ وَالنَّفْسِ والعَقْلِ وَالنَّسَلِ وَالْمَالِ)، عَلَى اخْتِلَاف مَرَاتبها الضَّرُورِيَّة وَالحَاجِيَّة وَالتَّحْسِيْنِيَّةِ. وَأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعَ لِذَاتِهِ، شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شَأْنُ جَمِيعِ الْأَحْكامِ فِي كَوْنِهَا شُرِعَتْ وَسَائِلَ لِغَايَاتِ هِيَ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذْ شَرَعَ الْأَحْكامَ فَقَدْ شَرَعَ مَصَالِحَهَا الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا، وَلَا يَكَادُ الْمَرْءُ يُدْرِكُ الْحَقَّ، وَيَبْلُغَ الْأَجْرَ حَتَّى يُوَافِقَ الشَّارِعَ فِيْمَا شَرَعَ حُكْمَا وَمَقْصِدَاً.
وَكَذَا إِنْ كَانَ صَحِيْحَا فِي ذَاتِهِ قَدْ حَاذَرَ المُجَاهِدُونَ الوُقُوعَ فِيمَا أَسْلَفْنَاهُ لَكنهُم أخطأوا مقصد الشرع منه من حفظ الدِّيْنِ ، أو حفظ النفس أو العرض أو المال، أو لم يَقدُرُوا لِهَذه المقاصدِ قَدْرَهَا، فَإنهُ جِهَادٌ عَاجِرٌ لَا عَلَىٰ هُدَى وَلَا عَلَى مُوَافَقَةِ الشَّرْعِ؛ ولَمَّا كَانَ هَذَا الأَمْرُ عَلَى أَهَمِيَّة كُبْرَى وَأَنَّ بَعْضَ جَبَهَاتِ القِتَالِ فِي الأَمْصَارِ تَذْهَلُ عَنْهُ فتتعجلُ أَمْرَ المُوَاجَهَة ممَّا يُبَرِّرُ للكافر أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَى البلاد المُسْلِمَة تَسَلَّطَاً مُباشراً فَيُهْلكَ حَرثَهَا ونَسَلَهَا ويُذل أهْلَهَا ويهتك عرضها ويلون فِطْرَتَهَا ، والواقع يشهد بذلك في مواطن شتى أرهقت بجهاد عاجز انطَلَقَ مُتَجَرِّداً عنْ تَحقِيقِ الفَهْمِ، وَإعْدَادِ القُوَّة المؤهلة في ردّ عدوان الكافر، وَلَيْتَ شعري لو أَنَّهُمْ اتَّعَظُوا بفعل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُدَاهُ فَمَا أقرب واقعه بواقعنا ، وقَدْ اضْطُهدَ وأَصْحَابُهُ وهو بِمَكَّة، ولَمْ يُؤذن له بجهاد الشَّوْكَة، وقد هَجِّرَ أصْحَابُهُ إِلَى المَدِينَةِ، وجميعهم قــد أُخْرِجَ عَن مَاله وأهله، ولَمْ يُؤذن له بجهاد الشوكة، حتَّى قَامَتْ أَسْبَابَهُ منتظمة في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ من الهِجْرَةِ، وقَد أُذِنَ لَهُ بِه ولَم يُفْرَض بَعدُ، فضلاً أَنَّهُ قد أُذِنَ لَهُ بِهِ فِي حَقٌّ مَنْ نَاوَءَهُ وَعَادَاهُ، وَلَمَّا قَويَتْ الشَّوكة، وبَات قَادِراً عَلَى نَشْرِ الدَّعْوةِ، وَرَدُّ العدوان، أُمِرَ بالجِهَادِ، فَلَو أَنَّ إخوَتَنَا أَبْصَرُوا هذا وأَدْرَكُوهُ، لَمَا تَعَجِلُوا الْأَمْرَ، وَلَنَكُوا بِأَنفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِم عَن حُصُولِ هَذِهِ الخَسَائِرِ الحِسَامِ مِنْ أَعْدَادِ هَائِلَة مِنَ الشُّهَدَاء، وَمِنْ أَعداد أَكْثَرَ بِكَثِيْرِ كَثِير مِنَ الإصابَاتِ الغائرة والإعاقَاتِ الدَّائِمَةِ، وَأَمَّا عَنْ هَدْمِ البيوت وتَشْرِيْد أَهْلَهَا مِنْ مَكَانَ إلَى مَكَان، وتدمير البنى التحتية، والمنشآت الاقتصادية، ونهب الثروات، فَحَدَّتْ عنها شعراً ونثراً وَلَاحَرَجَ، وَمَا زِلْنَا نَرْجِعُ القَهْقَرَى.
وحَاشَا وَكُلًّا أَنْ تَكُونَ هَذه ثَمَرَةَ جهاد قائم عَلَى دقة الفَهْم، وحُسْنِ التَّبَصر، واسْتَفْرَاغِ الوسع في جَمْعِ الأسباب، لهذا كُلَّهُ أَحْبَبْتُ أن أُجَلِّيَ هَذِهِ الحَقِيقَةً وَأَنَّ الجِهَادَ الأَكمَلَ مَا لَأزَمَ مَقْصُودَهُ وَدَارَ مَعَهُ فِي تَعْجِيلِ أَوْ تَأْجِيْل، وفِي عُمُومٍ أو خصوص وفِي غير ذلك، عَنْهَا تَجِدُ قلوبا صافية، وعقولا واعية تساعد في التصويب والترشيد، وَإِلَيْكَ بعض الأدلة التي تُقَرِّرُ هَذَا المَقْصِدَ:
الدليل الأول: قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْهَا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُولّهمْ يَوْمَئِذ دَبْرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لقتال أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ ـغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
مَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِصَدِّهِ، وَهَذَا يَعْنِي: أَن الثَّبَاتَ فِي حَقَّ المُؤمِنِ عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوِّهِ وَاجِبٌ مَا دَامَ يَجِدُ الجِهَادَ مُتَّجِهَا نَحْوَ تَحقيق مقصده، وأَنَّ التَّوَلِّي وَالفِرارَ إِثْمٌ وَحَوْبٌ يُعَرِّضُ المؤمن إلى غضب الله وَعَذَاب النار [1]، ولا يَزَالُ حُكْمُ الوُجُوبِ مَاضِيَا عَلَى حَالِهِ حَتَّى يَرَى المجاهِدُونَ قعُودَ الْجِهَادِ عَنْ تَحقِيق مقصده،ِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ، سَقَطَ الوُجُوبُ بِرَخصَةِ التَّحَرَّفَ أَو التَّحَيز جَرَّيَا مَعْ مَظَنَّة مَقْصَد الجهاد وَحَكَمَة مَشْرُوعِيَّتِه، وَهُوَ حفظ الدّين بَريَّئا من فتنة الكُفْرِ وَالشِّرْكَ، وَرَدُّ الْكَافِرِ والفاسد عَنْ المسلمين نفسا وعرضا ومالا.
والحاصل : أَنَّ الآيَةَ تُرسّخ مَفْهُومَ التِّلَازم بَيْنَ الجِهَادِ وَمَقْصده، وَأَنَّ كَمَالَ الْجِهَادِ فِي دَوَرَانهِ مَعْ مَقصدهِ وُجُودَاً وَعَدَمَا ، وَإِلَّا فَمَا قِيْمَةُ الرُّخصَةِ إِذَنْ.
الدليل الثاني: قال الله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِنكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُن مِنكُمْ ألْفُ يَعْلَبُوا أَلْفَيْن بإذن الله واللهُ مَعَ الصابرين .
أفادت الآية بمنطوقها وجوب ثبات المؤمنين إذا كانوا نصف عدوهم أو أكثر من ذلك، فيكون الواحد منهم في مقابل رجلين من الكفار، وحكمة ذلك فيما يُظَنُّ أن المسلمين إذا كانوا مثل عدوهم إلى النصف يُرجى لهم الغلبة والظفر. وَأَفَادَتْ بمفهومها المخالف زَوَالَ حُكْمِ الوجوبِ إِذَا كَانَ عَدُوُّهُمْ يَزِيْدُ على الضعف؛ فَعَن ابْنِ عَبَّاس قال: "إن فَرَّ رَجُلٌ من رجلين فقد فَرَّ، وَإِن فَرَّ من ثلاثة فلم يفر(٨٦)
الدليل الثالث: تابع لما قبله هل اعتبار الضعف في الجهادِ راجع إلى العدد أم إلى الجلد والقُوَّة؟
قال السرخسي من الحنفية : " ثُمَّ خَفَّفَ الأمرَ، فَقَالَ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، ص 126، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةً صَابِرَةً يَعْلَبُوا مِائَتَيْن، و هَذَا إِذا كَانَ بِهِمْ قَوَّةَ القَتَالِ بِأَنْ كَانَتْ مَعَهُمُ الأَسْلَحَة، فَأَمَّا مَنْ لَا سَلَاحَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَن يفر مِمَّنْ مَعَهُ السَّلَاحُ، وكذلك لا بأس بأنْ يَفِرَّ مِمَّنْ يَرْمِيَّ إذا لم يكن معه آلة الرمى، ألا ترى أَنَّ له أَن يَفرَّ من باب الحصن وَمِنَ الموضع الذي يُرْمَى فيه بالمنجنيق لعجزه عن المقام في ذلك الموضع ؟ وعلى هذا لا بأس بأن يَفرَّ الواحد من الثلاثة،(101 ) .
وقال الدسوقي: "فَإِذَا بَلَغَ المُسْلِمُونَ نِصْفَ العَدُوِّ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ الْفِرَارُ مَا لَمْ يَكُنْ مَدَدُ الْكَفَّارِ حَاصِلا ولا مَدَدَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ مَدَدْهُمْ مُتَّصِلًا وَلَا مَدَد لِلْمُسْلِمِينَ... جَازَ الفِرَارُ مُطلقا، َولَوْ بَلَغوا اثني عَشَرَ أَلْفا (١٠٤ ) .
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : يَجِبُ عَلَى الإِمَامِ أن يبعثَ سَرِيَّةً إِلَى دَارِ الحَرْبِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ... وهذا إذا غلب على ظنه أنه يكافئهم، وإلا فَلَا يُبَاحُ قِتَالُهُمْ "
وقال القرافي: واختلف في قَوْلِهِ تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلمَ أَنَّ فِيكُمْ ضعفاً وقيل التخفيفُ في العدد، فلا يَفِرُّ العدد من مِثْلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ سِلَاحَاً وَجَلَدَا إِلَّا أَن يَكُونَ بِأَرْض الحَرْب بموضع مَدَدهمْ فَلَهُ التَّولِيَةُ سَعَةً (١٠٣).
وقال عليش: "وَحَرُمَ فَرَارٌ مِنَ العَدُوِّ إن بلغ المسلمون الذين معهم سلاح (النصف من عند الكفار كمائة من مائتين ولم يبلغ المسلمون اثني عشر ألفاً، فإن بلغوا حَرَّمَ الفرار ولو كثر الكفار جداً ما لم تختلف كلمتهم (١٠٥).
أقول: ما أكثر الخلاف بينهم في أيامنا هذه.
وقال الرافعي في الشرح الكبير: إِنْ عَجَزَ المُسلِمُ عن القتالِ لِمَرَضِ، أو لم يَبْقَ معه سلاح، فَلَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ بِكُلِّ حَالَ، وَيُسْتَحَبُّ أَن يُولّى متحرفَاً أو متحيراً (١٠٦)، وقال: "وَلَوْ مَاتَ فَرَسَهُ وهو لا يقدر عَلَى القِتالِ رَاجِلا فَلَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ أيضا (١٠٧) ،
وقال أيضاً قال الإمام أي الشافعي - إن كان في الثبات الهلاك ص 127، المحضُ مِنْ غَيْر نِكَايَة في الكفارِ لَزِمَ الفِرَارُ ، وإن كَانَ فِي الثَّبَاتِ نِكَايَةٌ فِيهِم، نكاية فيهم، ففي جواز المصابرة الوجهان: أصح الوجهين أنه لا يجب الثبات بل يستحب
وقال الشيرازي: "وَإِنْ زَادَ عَدَدُ الكفَّارِ عَلَى مِثْلَي عَدَدِ المسلمينَ، فَلَهُمْ أَن يُوَلُّوا؛ لأنه لَمَا أَوْجَبَ الله على المائة مصابرة المائتين، دل على أنه لا عليهم مصابرة ما زادَ على المائتين، وروى عطاء عن ابن عباس : (مَنْ فَرَّ من اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَة فَلَمْ يَفر)، وإنْ غَلَبَ عَلَى ظَنْهِمْ أَنَّهُمْ يُهْلَكُونَ، فَفِيهِ وَجْهَان : أحدهما: أنه يلزمهم أن يَنْصَرِفُوا لقوله تعالى: ﴿ولا تلقوا بأَيْدِيكُمْ إلى التهلكة والثاني: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرَفُوا، وَلَا يَلْزَمُهُمْ، لأَنَّهُم إِنْ قُتَلُوا فَارُوا بِالشهادة (١١٠).
وقال النووي: "ولو قَصَدَ الكُفَّار بلداً، فَتَحَصَّنَ أهْلُهُ إِلى أَن يَجِدُوا قُوَّةً وَمَدَدَاً لم يأثموا، إنما الإثم على مَنْ وَلى بعد اللقاء (۱۱۱)،
وقال الخطيب الشربيني: "إذا زَادَتْ الْكُفَّارُ عَلَى الضَّعْفِ وَرْجِي الطَّفَرَ بِأَنْ ظَنَنَّاهُ إِن ثَبَتْنَا اسْتُحِبَّ لَنَا الثَّبَاتُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا الْهَلَاكُ بِلَا نَكَايَة وَجَبَ عَلَيْنَا الْفِرَارُ ، لقَولَه تَعَالَى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ أَوْ بنكَايَة فِيهِمْ أُسْتُحِبَّ لَنَا الْفَرَار (١١٣).
وقال ابن جُزَيِّ: "وَإِنْ عَلِمَ المُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ ، مقتولُونَ، فالانصرافُ أُولَى، وَإِن عَلِمُوا مَعْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لا تَأْثِيرَ لَهُم فِي نِكَايَةِ العَدُوِّ وجب الفرار، وقال أبو المعالي: لَا خِلَافَ في ذلك (۱۱۳).
وقال صاحب المعتمد في فقه الإمام أحمد: "فإن زاد الكفار علـ المسلمين، جاز للمسلمين الفرار المفهوم قوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلَمَ أَنَّ ؛ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنكُمْ مِائَةٌ صَابِرَة يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنكُمْ يعْلَبُوا الفين، وقال ابن عباس : مَنْ َفرَّ مِنَ اثنين فقدْ فرَّ وَمَن فرَّ مِنْ ثلاثة فلمْ يَفِرَّ يعني فراراً محرماً (١١٤).
وقال الشوكاني في السيل الجرار: إذا علموا -أي المسلمون - بالقرائن القوية أنَّ الكفار غالبون لهم ، مستظهرون عليهم، فعليهم أن يَتَنَكَّبُوا عن قِتَالَهُم، وَيَسْتَكْثِرُوا مِنَ المجاهدين ويَسْتَصْرِحُوا أهْلَ الإسلام، وقد استدل على ذلك بقوله : ﴿وَلَا تَلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ وَهِيَ تَقتضي ذَلِكَ بِعُمُومٍ لَفْظِهَا، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصَّاً، فَإِنَّ سَبَبَ نُزُولهَا أَنَّ الأَنصَارَ لَمَا قَامُوا عَلَى زَرَائِعهم، وَإصْلاح أَمْوَالِهِمْ، وَتَرَكُوا الجِهَادَ، أَنْزَلَ الله في شأنهم هذه الآية، كمـا أخرجــه أبــو داود والنسائي والترمذي، وصححه والحاكم أيضاً، وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبَب، ومعلومٌ أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ وهو يَرَى أَنَّهُ مَقْتُول أو مَأْسُورٌ أو مغلوب فقد ألقى بيده إلى التهلكة" (١١٥).
الدليل الرابع: قال العِزَّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: "كُل تَصَرُّف تَقَاعَدَ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُوْدِهِ باطل
وهي : قَاعِدَةً فِقْهِيَّةٌ تَنْطَبِقُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ مِثْلُ:
وَالجِهَادُ مِنْ أَفْرَاد هَذه القَاعِدَة، إِذَا عَرِي عَنْ تَحقيق المَصْلَحَةِ من حفظ الدِّيْنِ أَوْ النَّفْسِ أَوْ العِرْضِ أَوْ المَالِ يُمْسَكَ عَنْهُ رَيْتَمَا يَقُومُ الدَّاعِي الذِي يُظَنُّ مَعَهُ تلْكَ المَصْلَحَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ أَصْحَابَهُ عَلَى التَّوَلَي مُرَاعَاةَ لِتَحقِيقِ مقصد الجِهَادِ، (حديث العكارون)
فأنت ترى أن الصحابة لما رأوا أنه لا قبل لهم بعدوهم، وأنهم لا يستطيعون أن يُحَقِّقُوا مَقْصِدَ الجهاد في خُرُوجِهِمْ ذلك من كَسر شوكة الكفر وإسقاط نظامه رَجَعُوا وقد وَجَدُوا في أنفسهم أنهم عَصَوْا رَبَّهُم، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأقرهم على الفرار وذلك أنه فِرَار يعقبه عَكْرٌ وَكَرَّ وَنزَال يكون المؤمن فيها أكثرَ أُهْبَةً وأَجْمَعَ سَبَبَاً وَأَقْدَرَ على الإغاظة والنيل.
وَلَا أَنسَى الاسْتِدْلَالَ بِتَرْكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جِهَادَ الشَّوْكَةِ فِي حَيَاةِ مَكَّةَ، وَفِي أَوَّلِ مُقَامِه فِي المَدِينَة وَهُوَ العَالِمُ بِفَضلِ الجِهَادِ وَعَظِيْمٍ أَجْرِهِ، وَهُوَ القَوِيُّ بِاللهِ، وَهُوَ المؤيَّدُ بِجِبْرِيل وميكائيل شديدي القوى وبالملائكة المُسوِّمِيْنَ المعلمِيْنَ الَّذِيْنَ يَضْرِبُونَ الأَيْدِي وَالأَعْنَاقِ، وَلَا يحتمل تَرَكَهُ إِلَّا تَأسيس الأحكام للأَنَامِ أَنَّ الجِهَادَ مُنَاطٌ حُكْمُهُ بِأَسْبَابِهِ وَمَقَاصِدهِ فَمَتَى تَحقَّقَت وَجَبَ النَّفِيرُ ولَحِقَ الْإِثْمُ الْقَاعِدِينَ؛ وَمَتَىٰ غَابَ مَقْصدُهُ فَالرِّيَاثَةُ والمهلة ريثما تقوم مظنته تأسياً بفعله بأبي هو وأمى ،
وَمَعلُومٌ عِندَ عَلَمَائِنَا الأُصُولِيّيْن أَنَّ الوَسَائِلَ تَأْخُذُ حُكْمَ المَقَاصِدَ، وَحِفْظُ الدِّيْنِ مَقْصِدٌ وَوَسَيْلَتُهُ أُمَّةً قَوِيَّةً، وَلَا يُدْرَكَ حِفْظُ الدِّيْنِ إِلَّا أَنْ تُدْرِكَ قُوَّةُ الْأُمَّةِ، وَمَا لَا يَتِمَّ الواجب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَلْتَحْرص الأمَّةُ عَلَى لَمْلَمَة الشَّعَتْ، وَنَبْد الخَلَافِ، وَرَصَ الصَّفُ، وَوَحِدَةِ الكَلِمَةِ، وَمَنْعِ النَّجْوَى إِلَّا فِي الخَيْرِ ، وَتَحقِيقِ الْفَهْمِ، وَتَعْمِيقِ الرُّؤْيَةِ وَاسْتَفْرَاعَ الوَسَع فِي تَقْرِيرِ أَسْبَابِ القُوَّةِ وَالأسْتعَانَة مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ بِاللَّهِ القَوِيُّ ناصر المؤمنينَ وَمُعزّ الموحدين، فَلْيَتَأمل هَذَا فَإنّهُ دَقيق.
الدليل الخامس: اعتبار المآل ؛ قال الإمام الشاطبي: "النَّظَرُ فِي المَالَاتِ مَقْصُودٌ مُعْتَبَرْ فِي الشَّرْع
فَإِنْ قَالَ قَائِلُهُم نَحْنُ نَظُنُّ أَنْ يَقُودَنَا الجهادُ إلى مقاصدِ الشَّرع التي حَدَّدَ. أَقولُ : إنكم تتقلدونَ أمَانَةً عَظيمَة وهي أمانة الأمة، وليسَ ما تَقُولُونَ يُدْرَكُ بالادعاء، بل بما يُقَرِّرُ أهْلُ الذِّكْرِ في كُلِّ ما يَتَعَلَّقَ بأمر الجهاد من سياسة واقتصاد وعسكر وسلاح ويتوج هذا قَرَارُ الشَّرْعِ، فَلَا يجوز للقائد أن يكون بمعزل عَنْ أَهْلُ الذكر، ولا يجوز أن يتخذَهُم من الذين يُصانعُونَهُ، ويسارعون في رغائبه وميوله وأهوائه، بل يختارهم أكفاء قادرين متجردين عن الأهواء، وأن يمنحهم الأمن والأمان حتى لا يخشوا سطوته، ويصدقوا في نصحه، وله في سالف الأمة خير عبرة وعظة، وما كان أحدهم يقطع في أمر يحزبه أو طارئة تطرق الأمة حتى يلقيها على أصحاب العلم والبصائر، وما كان يتجاوز ما يرونه امتثالاً لقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (۱۷۱) .
الدليل السادس: مَعلُومٌ أَنَّ الله تَعَالَى شَرَعَ أحكام التكليف مَقدُورَةٌ لَدَى المكلفينَ عِلْمًا وَعَمَلاً، فَمَن كَانَ عَاجزاً عَنْ فَهْمِهَا وَالعِلْمِ بها سَوَاءً لِعَجْزِ فِي ذَاتِهِ كَصِغَرِ أَوْ جُنُونٍ، أو خَارِج عنه كَمَا لَو كَانَ بَعِيداً عَنْهَا وَلمَ يُقَصِّرْ فِي طَلَبِهَا وَالسُّوَالِ عَنْهَا يَسقُطْ حَكْمُهَا عنه؛
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والحُجَّةُ عَلَى العِبَادِ إِنَّمَا تَقُومُ بِشَيْئَيْنِ، بِشَرْط التمكن من العلم بمَا أَنْزَلَ الله، والقدرة على العمل به، فأَما العَاجِرُ عَنِ العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فَلَا أَمْرَ عَلَيْهِ وَلَا نَهْي، وإذا انقطع العلم ببعض الدِّيْنِ، أَو حَصَلَ العَجْرُ عَنْ بَعْضِهِ؛ كَانَ ذَلِكَ فِي حَقَ العَاجِزِ عن العلم أو العَمَلِ بقولِهِ كَمَنْ انْقَطَعَ عَنْ العِلْمِ بجميعِ الدِّيْنِ أو عَجَزَ عَن جَمِيعِهِ – كالمجنون مثلاً - وهذه أوقاتُ الفترات، فإذا حَصَلَ مَنْ يَقُومُ بالدين منَ الْعَلَمَاءِ أَوِ الْأُمَرَاءِ أَوِ مَجْمُوعِهِمَا كان بَيَانهُ لِمَا جَاءَ به الرَّسُول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أنَّ الرسول لا يبلغ إلا ما أمْكَنَ عِلْمُهُ والعملُ بِهِ، ولم تَأْت الشريعةُ جملَةً كما يقالُ : إذا أردت أن تُطَاعَ فَأْمُرْ بِمَا يُسْتَطَاعُ. فكذلك المجد لدينه والمُحْيِي لِسُنَّته، لا يُبَلِّغُ إِلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالعَمَلُ به، كما أَنَّ الدَّاخِلَ في الإسلام لا يُمكن حين دُخُوله أن يُلَقَّنَ جَميعَ شَرَائعه، ويُؤْمَرَ بِهَا كُلِّهَا. وكذلك التائبُ مِنَ الذنوب، والمتعلم، والمسترشد ، لا يَحْمنُ في أَوَّلِ الأمر أن يُؤْمَرَ بجميع الدِّينِ وَيُذْكَرَ لَهُ جَمِيْعُ العلم، فإنه لا يُطيِّقُ ذَلِكَ، وَإِذَا لم يُطِقْهُ لَمْ يَكُن وَاجِبَا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الحَالِ، وإذا لم يكن وَاجِبَاً لم يكن للعَالِمِ والأَميرِ أَن يُوْحِبَهُ جَمِيْعَهُ ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يُمكنُ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ إِلَى وَقتِ الإِمكانِ كما عَلَى الرسولُ عَمَّا عَلَى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فَرَضنا انتفاء هذا الشرط فَتَدَبَّرَ هَذَا الْأَصلَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ.
ومِنْ هُنَا يتبينُ سُقُوطُ كثير من هذه الأشياء وإنْ كَانَتْ وَاحِبَةً أَو مُحَرَّمَةً فِي الأصلِ ؛ لِعَدَمِ إِمكانِ البَلَاغِ الذي تقومُ بِهِ حُجَّةَ اللهِ في الوجوب أو التحْرِيمِ، فَإِنَّ الْعَجْرَ مُسْقِطٌ لِلأَمْرِ وَالنَّهْي وَإِنْ كَانَ وَاجِبَاً في الأصل (۱۸۱).
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَإِنَّ الجِهَادَ مِنْ جُمْلَة أحكام التكليف الَّتي بَيْطَ حُكْمُها بالقدرة والطَّاقَةِ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ وَجَبَ حُكْمُهُ وَإِذَا فُقِدَتْ سَقَطَ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَسْقَطَهُ عَنْ ذَوِي الْأَعْذَارِ المَائِعَةِ فقال سبحانه: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى المَريض حَرَجٌ وَمَنْ يُطع الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أليما (۱۸۲)، وقال تعالى: وَلَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٍ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوكَ لِتَحْمَلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعِيْنُهُمْ تَفِي مِنَ الدَّمْعِ حَزَنَا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخوالف وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )
وقد أَسْقَطَ الجهاد عَنْ نَبِيِّه ص وهو بمكة لعجزه وأَصْحَابِهِ عَنْ أَسْبَابِ الْقُوَّةَ المَادِيَّةِ والبشرية التي تنهض في مواجهة قريش، وعليه فمتى استحكم بالناس عَجْرٌ لم يتمكنوا مَعَهُ مِنْ مُوَاجَهَةِ عَدُوِّهِمْ سَقَط حُكمُ الجهَادِ عَنْهُم حَتى يَزُولُ العَجْرُ وَ القُوَّةُ، وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ لَّا يَسْتَكِيْنُوا لَذَلكَ، بَلْ يَتَسَبَّثُوا بِأَسْبَابِ القُوَّةِ فِي أَنفُسِهِم وَفِي شَوْكَتهم امتثالاً لقوله تعالى: ﴿وَأُعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ ترْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُم يعلمُهُمْ (١٨٤)
قال الشيخ العثيمين : " لابُدَّ فيه من شَرط، وهو أَنْ يَكُونَ عِنْدَ المسلمين قُدْرَةً وقوة يستطيعون بها القتال، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِمْ قَدْرَة فَإِنَّ إقحام أَنفُسِهِم فِي القِتالِ إِلقاء بأنفسهم إلى التهْلُكَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجب الله سبحانه وتعالى على المسلمين القتال وهم مكة؛ لأنَّهم عاجزون ضعفاءُ، فَلَمَّا هَاجَرُوا إِلى المَدِينَة وَكَوَّتُوا الدَّولة الإسلامية وَصَارَ لهم شَوَكَةً أُمِرُوا بِالْقِتَالِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ، وَإِنَّا سَقَطَ عَنْهُمْ كَسَائِرِ الواجبات؛ لأنَّ جميع الواجبات يُشترط فيها القدرة ، لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ ما استطعتم ، وقوله تعالى : ولا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا (١٨٥) .
الدليل السابع: قال العز بن عبد السلام : اجتهاد الإمَام عَلَى الرَّعِيَّة مَنُوطٌ في بالمصلحة".
إذا عرفت أن الإمام بعدله وامتثاله شَرْعَ رَبِّهِ ، فَإِنَّ هَذِهِ القَاعِدَةَ العَظيمة الجَدْوَى الوَاسِعَةَ المنفعة، لتَعلَّقها بأمَانَة الرَّعيَّة أَفَادَت أَنَّ سُلْطَةً وَلِيِّ الْأَمْرِ عَلَى الرَّعِيَّةِ واجْتِهَادَهُ فِي شَوْنِهَا مُقَيَّد بالأنفعِ وَالأَصْلَح ، ولَا يُبَرَّرُ لَهُ أَنْ كَانَ ذَا سُلْطَة عليا أَن يَجْتَهِدَ فيهم بالهوى وَحَطّ النَّفْسِ ، أو يندفع بِالْجِزَافِ مِنْ غَيْرِ تَرَيَّتْ وَتَأْمُّلٍ واستنارة بالأكفاءِ مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ فِي كُلِّ عِلْمٍ.
كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ فِي الرَّعِيَّة بقناعَةِ المستكبر الذي لا يَرَى إلا نفسه، ولا مُعَقَبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا مُراجع لِقَرَارِهِ، فَهَذَا فَهُمْ سَبْعِيٌّ عُدْوانٌ، إِذْ لَا عِصْمَةَ إِلَّا فـي الوحيين ولا إطلاق إلا في طاعة الله وَرَسُوله صلى الله عليه وسلم وَمَا سوى ذلك فطاعة مقيدة يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ سُبْحَانَه أو يحقق مصلحة الأمة، يُقَرِّرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
وَعَن أبي بكر الله قال: "أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللهَ فِيكُم، فَإِذَا عَصَيْتُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُم).
عَلَى أَنَّ مَدْلُولَ القَاعِدَة يَسْتَوْعِب جَمِيْعَ اجتهادات الإمامِ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَمِنْ جمَلَتِهَا اجتهَادُهُ فِي الجِهَادِ والمَقَاوَمَةِ مِنْ جِهَةٍ طَبِيعَته وأسلوبه وبدءه أو تأخيره، وَتَوْسَيْعَهِ أَوْ تَصْدِيقِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَتَعَيَّنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْطَلِقَ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِبَاعِثِ إِبْرَاكِ الأنفع والأصلح للأُمَّةَ دِينَا وَنَفْساً وَمَالَا، وَيَتَحَرَّى تَحقِيقَ ذَلِكَ جَهْدَهُ، وَلَوْ بَدَا لِلرعية تَعَسُّقُهُ أَوْ زَيْغُهُ وَصَلَالُهُ، أَوْ تَهَوَّرُهُ وَانْدِفَاعَهُ، أَوْ عَجَرُوا عَنْ امْتَثَالِ أَمْرِهِ لَمْ تَلْزَمْهُم طَاعَتُه مَا لَم يُفْضِ ذَلِكَ إِلى شَرِّ أَعْظَم،
أَمَّا عِندَ العَجْزِ فَالأَدلَّةُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قَوْلُه تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأمْر فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
إِذَا عَرَفَت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْجِهَادَ دَاخِل فِي هَذَا العُمُومِ، وَأَنَّهُ لَا يُشْرَعُ إِلَّا عِنْدَ تَحقَّق القُدْرَة وَمَظَنَّة المَقْصد، فَلَوْ دَعَا الإمامُ إلى الجهَادِ وَرَأَى أَهْلُ الحَلِّ وَالعَقْد فيه تَهَوْراً وَانْدِفَاعَاً، أَوْ عَجْزًا مَانِعَاً كَفُرْقَة فِي الأُمَّةِ وَاخْتِلَافِ، أَوْ ضَعْفِ فِي الشَّوْكَةِ وَالسَّلَاحِ يَقُودُ إِلَى المَفَاسِدِ وَالْهَرَائِمِ، لَا تَلْزَمُ طَاعَتُهُ عِنْدَئِدَ، فَإِن كَانَ هَذَا فِي حَقٌّ وَلَاةٍ الْأَمْرِ قَادَةِ الوِلَايَاتِ وَالْأَمْصَارِ وَالبِلادِ، فَهُوَ فِي حَق قَادَةِ الْأَحْزَابِ وَالحَرَكَاتِ وَالقَبَائِلِ أُولَى، وَذَلِكَ أَنَّ رَكْبَتَهُم أَدنَى ، وَمَسؤوليْتَهُم أَقَلُّ، وَأَمَانَتَهُم أَخَفَ. والله أعلم.
د. سلمان الداية،
يا ليت قومي يعلمون- رسالة في الجهاد،
مجلة البحوث الاسلامية، ع 13، مارس 2017.
المصدر: مجلة البحوث الإسلامية - العدد الثالث عشر، جمادى الآخرة ١٤٣٨هـ، الموافق مارس 2017، مصر، الصفحات من 109 الى 162،
لمزيد من عناصر التوثيق بشكل كامل انظر هنا
رابط المحتوى من موقع مجلة البحوث الإسلامية من هنا
[1] - قال الله تعالى فقدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله ومَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبَئْسَ الْمَصِيرُ (۸۳) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبقات، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَمَا هُنَّ؟، قَالَ : (الشرك بالله .... وذكر الحديث حتى قال: (وَالتَّولِّي يَوْمَ الزّحْفِ وَقَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ) (٤)،
لتحميل نص المقال كاملا بهوامشه، كما تم نشره في مجلة البحوث الإسلامية، العدد 13، مارس 2017، من هنا
اقرأ المزيد
- د. سلمان الداية ،يا ليت قومي يعلمون - رسالة في الجهاد ، منشور مجلة البحوث الإسلامية - العدد 13، مارس 2017، الصفحات من 109 الى 162،
- د. سلمان الداية ،أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ، منشور، موقعه الفيسبوك، بتاريخ 6 نونبر 2024،
- د. سلمان الداية ، أيّها السّاسة والقادة.. لا تنزع الرّحمة إلّا من شقيّ، نشرته جريدة الأمة الإلكترونية، في جزئين، بتاريخ 21 أبريل 2025،
- د. سلمان الداية ،أَيُّهَا السَّاسَةُ وَالْقَادَةُ وَالْعُلَمَاءُ.. لَسْنَا قَطِيعَاً مِنَ الْمَاشِيَةِ فِي أَرْضِكُمْ ، موقع الشيخ بالفيسبوك، بتاريخ 21 يوليوز 2025،
- د. سلمان الداية ، دفع الإلتباس ، موقع الشيخ بالفيسبوك، بتاريخ غشت 2025،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق