ودعنا عامًا مليئًا بالأحزان، فقدنا فيه كثيرًا من أبناء فلسطين، قادةً وأفرادًا، وشهدنا خلاله حدثًا كبيرا يتمثل في سقوط الدولة السورية، وليس فقط نظامها. والطامة الكبرى كانت في مشهد عربي محير: فرحة البعض بهذا الخبر، بما في ذلك فلسطينيون، مما يدعو إلى التساؤل عن دوافع هذا الفرح وسذاجته التي لا أفهمها.
إن سقوط سوريا بهذه الطريقة يعني إغلاق باب آخر من الأبواب التي كانت تصل منها بعض أشكال الدعم والخير للقضية الفلسطينية، ومع ذلك، نجد بعض الفلسطينيين يحتفون بهذا السقوط وكأنه إنجاز. هل يدركون ما يعنيه ذلك؟ أم أنهم ينظرون للأمر بمنظار ضيق يقتصر على كره النظام السابق؟
قراءة في مواقف النظام الجديد
حتى الآن، لم نرَ من النظام الجديد في سوريا أي مؤشرات تبشر بالخير للقضية الفلسطينية. رأينا خالد مشعل، أحد أبرز رموز المقاومة، يوجه لهم كلمة، ولكنها لم تلقَ أي صدى. لم يكترثوا لكلمته، ولم يوجهوا له دعوة لزيارة سوريا كما كان يفعل سابقًا. بل لم نرَ حتى احتجاجًا رمزيًا منهم ضد احتلال أراضٍ سورية من قبل قوى أجنبية.
سوريا بين بشار والجولاني: أين البوصلة؟
لنكن واضحين: لا يهمني شخص بشار الأسد أو الجديد المسمى الجولاني. بوصلتي كانت وستظل فلسطين. من يقدم لفلسطين أكثر، فهو من يستحق الدعم، سواء كان ذلك بشار أو أي جهة أخرى. والسوريون لهم الحق في الفرح بتحسن أوضاعهم، حتى لو كان ذلك على حساب التنكر لفلسطين، كما فعلنا نحن وغيرنا من الدول العربية.
لكن السؤال الحقيقي: ما الذي ينتظر المقاومة الفلسطينية في ظل النظام الجديد؟ هل سنشهد تحول سوريا إلى نسخة أخرى من دول التطبيع العربي، حيث يُقطع عن المقاومة كل دعم مادي أو معنوي؟
علامات التطبيع تلوح في الأفق
لنكن واقعيين: لن يطول الأمر حتى تظهر ملامح التطبيع في سياسات النظام الجديد. لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فإن العلامات بدأت بالظهور. المسلسل نفسه الذي رأيناه في دول أخرى يبدو أنه بدأ يُعرض على الساحة السورية.
البعض يقرأني خطأ
هناك من يتهمني أنني "أتأسف على بشار"، وهذا تحليل خاطئ تمامًا لما أقول. أنا لا أتعاطف مع بشار، بل تحدثت عن سقوط دولة، وليس فقط سقوط نظام. وموقفي واضح: فلسطين هي البوصلة، وفي هذه "البيعة والشرية"، الخاسر الأكبر هو المقاومة الفلسطينية.
الجولاني، الزعيم الجديد، باع الجولان وغيره، واعتلى عرشًا مهد له أعداء المقاومة. إسرائيل هي الحليفة الجديدة لهذا النظام، فهي من حطمت له حزب الله لتفتح له الطريق إلى دمشق. أمريكا، بدورها، هي من تدير المشهد: إن أردت رفع العقوبات وإزالة اسمك من قوائم الإرهاب، فلا تذكر إسرائيل بسوء.
لكن هذا لا يعني أنني مع بشار المجرم، الذي كان يمكنه تسليم الحكم لشعبه بدلًا من تسليمه لمن اعتادوا حز الرؤوس وقتل المجاهدين من طوائف أخرى. الجولاني، كغيره، يحمل تاريخًا دمويًا منذ 2003. هو أخف الضررين، لكن لا يمكنني الفرح لسقوط دولة سوريا مع إسرائيل وأمريكا.
فلسطين تدفع الثمن
بالنسبة لي، من يحب فلسطين يجب أن يحزن لما حدث. الأبواب التي كانت تقدم المدد للمقاومة ستغلق، والجولاني لن "يعقل عليهم". لن نر خالد مشعل يزور دمشق كما كان الحال في الماضي. الجولاني ربما سيكون الحارس الأمين لإسرائيل وأمريكا، اللهم خيب ظني.
ومع ذلك، من حق السوريين أن يفرحوا، حتى لو ضربوا عرض الحائط بفلسطين، كما فعلت دول عربية أخرى. وبعد ما رأيته في سوريا، أصبحت أفهم التطبيع المغربي أكثر. لأنه إذا لم تطبع، فمصيرك سيكون مشابهًا لسوريا: سيتم تنحيتك، ووضع شخص من طينة الجولاني، لكن بجنسية مغربية.
مسألة وجهة النظر
لمن يرغب في الرد، أقول بدايةً إن هذا الموضوع يشبه الرقمين 6 و9؛ كلٌ يراه من زاويته. أنا لا أنظر لجرائم بشار فقط، بل أركز على يد إسرائيل في المنطقة، وما سنخسره من مفاسد مقابل المصالح التي يراها البعض في زوال طاغية رفضه الشعب، وهجر الملايين بسبب تمسكه بالكرسي.
هذا الرجل بلا نفس. كان يجب عليه أن يستمع لشعبه الذي قال له "لا نريدك"، ويسلم السلطة بشكل سلمي. لو فعل ذلك، لما أصبحت سوريا في يد جماعات جاءت من خلفية داعشية وقاعدية. الآن، لا ندري إن كانت الدولة ستتحرر من قبضتهم يومًا، أم أنها تحولت رسميًا إلى بؤرة للتطرف ومصدر لتصدير المتطرفين لدولنا.
الردود على المناقشات
أشكر كل من ناقشني بأفكار موضوعية حول هذا الموضوع السياسي المرتبط بقضيتنا الأولى، فلسطين. دعوني أوضح: حديثي كان محاولة استشراف للمشهد، وتحليلًا يمكن أن يصيب أو يخطئ. أتمنى أن أكون مخطئًا، وأن يكون النظام الجديد في سوريا أفضل من دولنا المطبعة، وأن يتبنى القضية الفلسطينية بصدق، ويدافع عن أرضه، ويفتح المجال للمقاومة للإقامة كما كان الحال في عهد بشار.
لا أقول إن بشار كان مثاليًا، لكنه كان يسمح للمقاومة اللبنانية، تم ناصرت غزة، بالدعم والعتاد، وهذا أمر لا يمكن إنكاره،. على الأقل كان يشكل إزعاجًا لإسرائيل، أما الآن فقد اطمأنت تمامًا.
أتفق معكم أن الوقت الآن ليس مناسبًا لتوجيه اتهامات بالعمالة، وأن علينا أن ننتظر لنرى ما يفعله النظام الجديد. لكن هذا لا يمنعنا من التساؤل: كيف تم هذا "النصر"؟ كيف سمح النظام الدولي بهذه السهولة للجولاني أن يصل إلى دمشق؟ هناك اتفاقات واضحة، منها السماح لإسرائيل بالتوسع في الجولان، وتدمير مقدرات الجيش السوري مقابل الصمت.
متفق انه من حقهم الان أن يهتموا بالشأن الداخلي، ولا طاقة لهم الان بالدخول في مواجهة مع الكيان، اذن بنفس المنطق، يجب ان نجد العذر أيضا للسلطة في الضفة، التي هي ايضا تقول لا قبل لنا بإسرائيل، وليس عندنا طائرات تصد العدوان، او اسلحة مضادة لقصف الطيران، اذن من حقهم هم ايضا "يشدوا ولادهم"، ويمنعونهم من استفزاز للعدو، خاصة بعد توقف الطرف الوحيد من الامة الذي كان يدافع، حيث ضحى بدياره و بأبنائه وبقيادته من جميع الصفوف وصولا الى الأمين العام السيد حسن نصر الله، رحمه الله، وبعد انقطاع المدد الذي كان يصل من سوريا.
إن ما حدث في سوريا هو مؤشر لما يمكن أن يحدث لأي دولة تحاول الخروج عن الصف. إذا لم تطبع، سيضعون لك نسخة من الجولاني، لكن بجنسيتك. علينا أن نكون واقعيين، ونقرأ المشهد من كل الزوايا، لا من زاوية واحدة فقط.
بين الدولة والنظام
وأريد أن أوضح أمرًا للبعض: عندما أقول إن ما حدث هو سقوط دولة وليس نظامًا، فأنا لا أفرح بقصف مقدرات الجيش السوري، ولا أفرح لاحتلال الأراضي السورية مثل الجولان وجبل الشيخ، أو حتى التقدم إلى كيلومترات من دمشق. كما أنني لا أفرح للقصف الذي شاهدناه ليلة 8 دجنبر على المدن الساحلية، والذي كان أشبه بالهزات الأرضية من شدته، ولا للسطو على القصر الرئاسي ونهب الآثار والأرشيف.
لماذا هذا الفرح وتغييب هذه الجوانب؟ لماذا لا نسأل: كيف استطاع "أخونا" أن يفتح الطريق من إدلب إلى دمشق؟ ما هو الثمن؟ وما هي الاتفاقات التي أُبرمت مع العدو؟
قد يكون هناك اتفاقٌ يقضي بالصمت التام عن الأراضي المحتلة، سواء في سوريا أو فلسطين، أو حتى التحول إلى نسخة أخرى من دول التطبيع العربية التي تغلق كل شيء أمام المقاومة، حتى الهواء إن أمكن.
قراءة المستقبل
اليوم يجب أن نصبر، فليس الوقت مناسبًا للحكم على التجربة. لكن قراءتي تقول إن هذا النظام سيسير في اتجاه بناء دولة تشبه دولنا المطبعة. لقد أعلن أنه سيغير النظام الاشتراكي، مما يعني أنه يتجه نحو الرأسمالية ونظام اقتصاد السوق. وهو بحاجة إلى رفع العقوبات والخروج من قائمة الإرهاب، مما قد يدفعه إلى التطبيع، ولو سرًا.
خلاصة القول، لمن يحب فلسطين ويرفض التطبيع، أقول: فرحكم بهذا النظام لا يتسق مع مبادئكم. أراكم تقعّون في التناقض. أتمنى أن أكون مخطئًا، لكن هذا النظام الجديد يبدو في طريقه ليصبح نسخة أخرى من أنظمة التطبيع، مثل الدول التي ترفضونها.
في الختام: نقاش حول منهج التغيير
أولا ردا على أن هاته أطروحة غريبة، أحب أن أبين أني لست وحدي من يتبنى هذه الرؤية، فقد سعدت أن رئيس المرصد المغربي لمناهضة التطبيع، الدكتور أحمد ويحمان، عبّر عن نفس الاتجاه في مقال صريح بعنوان: "في هبل الدعوة للفرح وسط الخراب: سوريا تُهدم .. والفرحون يراهنون على مستقبلٍ لن يجدوه".
في مقاله، سلط الضوء على مفاسد أعمق وأكبر، أبرزها تفتيت سوريا وتجزيئها. يشير الدكتور ويحمان إلى أن هذه التفتيتات ستُخلِّف وراءها بلدًا ممزقًا، قد يحتاج أهله في المستقبل إلى تراخيص للتنقل بين أرجائه. كما يؤكد أن من يفرح اليوم قد يصطدم غدًا بواقع مُرٍّ عندما تنتهي احتفالات النصر ويبدأ العمل على إعادة الإعمار، ليجدوا سوريا قد أصبحت حلمًا بعيد المنال (1).
لعل جوهر الخلاف حول ما جرى في سوريا ينبع من اختلاف المدارس الفكرية التي ينتمي إليها كل منا. فالنقاش الحقيقي ينبغي أن يتمحور حول طريقة التغيير: هل أنت مع التغيير من الداخل أم الخارج؟ هل تؤمن بالثورات أم تراها مجرد أوهام؟ هل أنت مع الملكية ام ضدها؟
بالنسبة لي، وكما سبق التوضيح، أنا غير مقتنع بالثورات، خاصة المسلحة منها. أؤمن بأن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، وبأن الإنسان يجب أن يُصلح نفسه أولًا. التغيير الخارجي، مهما بدا جذابًا، ليس سوى أكذوبة. حتى إذا أصبحت سوريا ودولنا عامة مثل فرنسا، ستظل تعاني من المشاكل، تمامًا كما نرى هنا الإضرابات ومظاهرات "السترات الصفراء"، والسخط والشكاوي والإطاحة بالحكومات.
إذن، النقاش الأساسي ليس فيما حدث لسوريا كنظام أو دولة، بل في النظرية التي يعتنقها كل منا بشأن آلية التغيير. من ينتمي لمدرسة التغيير يجب ان يكون في الخارج بالثورات، يرى الحدث بنظرة مختلفة تمامًا عن نظرتي أو نظرة أي شخص يؤمن بالتغيير من الداخل.
تحليل مشهد الفرح الشعبي
من هذا المنطلق، يمكننا فهم سبب الفرح الشعبي الذي رأيناه عند البعض لسقوط النظام السوري. هذا الفرح يعود، برأيي، إلى الخلفية النفسية والفكرية لهؤلاء. من خرج في ثورات في بلده، مثل حركة 20 فبراير في المغرب، وشعر بالإحباط لاحقًا، ينظر لما حدث في سوريا كأنه انتصار لمدرسته الفكرية.
أما عبد ربه فلم أشارك في مثل هذه الحركات، لذلك أنظر للمشهد بنظرة مختلفة تمامًا. خذ مثلًا سي بنكيران، الذي لم يُعلق على نجاح الثورة في سوريا. موقفه متسق مع قناعاته، لأنه ليس ثوريًا. في المقابل، سي العثماني عبّر عن فرحته بسقوط النظام، ولكن ليس لأنه يؤمن بالثورات، بل لأن الجولاني، الذي قاد "الثورة المسلحة"، هو من الإسلاميين مثله الذين اختاروا محور أمريكا إسرائيل، ومن جهة أخرى، وبصفته وزير خارجية سابق، سقوط محور بشار إيران روسيا يعني بالنسبة له التخلص من نظام كان يدعم البوليزاريو.
محمد بلمعلم
باحث بجامعة باريس 1، بنطيون - السوربون
----------
1 - احمد ويحمان، " سوريا تُهدم .. والفرحون يراهنون على مستقبلً لن يجدوه "، دار الفيسبوك، بتاريخ 11 دجنبر 2024. ، وفي نفس الاطار له مقال اخر بعنوان: "فلسطين البوصلة: ومضات على مواقف المحاور والرهانات الإقليمية" دار النشر الفيسبوك، بتاريخ 16 دجنبر 2024.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق