الاثنين، 18 أغسطس 2025

تجربة غزة ليست الجزائر: قياس مع الفارق، ✍ محمد بلمعلم

 


كثيرًا ما يخرج من يقيس تجربة غزة اليوم على تجربة الجزائر في نيل استقلالها. غير أن هذا قياس فاسد وخطير.

الجزائر كانت دولة قائمة لها أرضها وحدودها، احتلتها دولة أخرى. فإذا بلغت كلفة الاحتلال حدًّا باهظًا على المستعمر، فإنه يرحل عائدًا إلى بلاده.

أما في الحالة الفلسطينية، فنحن نتحدث عن شعب بلا دولة أصلًا، ولا كيان معترف به. وأي كلفة تُدفع هنا لا تجعل الاحتلال يرحل، بل تُراكم المأساة على الناس أنفسهم.

 

حتى الحديث عن "حجم التضحيات" في التجربة الجزائرية يبقى موضع شك، فكثير من الأرقام مضخّمة. لكن حتى لو أخذناها كما هي، فالسؤال الجوهري: هل كان الطريق الوحيد للاستقلال أن تُبذل تلك الملايين من الأرواح؟ أليس من الممكن أن تُختصر الكلفة بوسائل أخرى أكثر حكمة وأقل نزيفًا؟

 

ومن المفارقات التي يغفل عنها كثيرون: أن شارل ديغول نفسه أعلن سنة 1958 أن فرنسا ستمنح مستعمراتها خيارًا بين الحكم الذاتي ضمن "المجتمع الفرنسي" أو الاستقلال الفوري. معظم المستعمرات—بما فيها الجزائر—اختارت الخيار الأول، باستثناء غينيا التي وحدها صوّتت بأغلبية ساحقة لصالح الاستقلال.

 

إذن، فلنكف عن تسويق البطولة الزائفة. فالجزائر اليوم ما زالت ملتصقة بفرنسا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. وهذا الواقع وحده يكفي لنسف الأسطورة التي يريد البعض إلزامنا بها كقدوة أو نموذج يُحتذى لأهلنا في غزة الذين لا يزيد عددهم عن مليوني نسمة، بينما الجزائر بلد واسع يضم أكثر من 46 مليون نسمة اليوم، وكان آنذاك بين 10 و12 مليونًا فقط.

 

أما عن التضحيات: فقد قُدّر عدد شهداء الثورة الجزائرية في سبع سنواتها (1954-1962) بين 300 و500 ألف شهيد[1]، أي نحو 5% من سكان الجزائر آنذاك. وفي غزة، خلال نكبة الطوفان وحدها، سقط – وفق أدق التقديرات – أكثر من 100 ألف ما بين شهيد ومفقود ومهدوم عليه. وبالمقارنة مع عدد سكان غزة (مليوني نسمة)، فإن نسبة الضحايا بلغت تقريبًا 5%، أي نفس نسبة شهداء الجزائر إلى عدد سكانها[2].

 

هذه المقارنة وحدها كافية لتفنيد القياس الفاسد الذي يلوّح به البعض، كلما جرى الحديث عن ضرورة وقف المقتلة، ووقف استنزاف أرواح الناس باسم "الاقتداء بالنموذج الجزائري"، ثم متى كانت عظمة الثورة تقاس بعدد الضحايا من شعبها؟

 

وإذا كان لا بدّ من القياس، فالأجدر أن نستحضر تجربة شيخ المقاومة المغربية عبد الكريم الخطابي، الذي واجه الاحتلال الإسباني ببطولة، لكن حين بدأ المستعمر يستعمل الأسلحة الكيماوية التي تهدّد بإبادة سكان الشمال جميعًا، توقّف، وسلّم نفسه وسلاحه، ثم نُفي إلى الخارج. لقد قدّم بذلك درسًا آخر: أن الحفاظ على حياة الشعب أولى من الاستمرار في معركة يعرف مسبقًا أن نتيجتها ستكون الفناء الجماعي.

وإذا كان لا بدّ من القياس، فالأجدر أن نستحضر ثورة المؤتمر الوطني الأفريقي بقيادة نلسن منديلا ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، انتهت بتحرير الأفارقة بدون إراقة قطرة دم واحدة تقريبا، رغم أن البيض كانوا يتمنون أن يبتلع البحر السود يوما! لماذا يجب على الفلسطينيين الاستشهاد بالملايين من أجل التحرر، رغم أن التاريخ يقول أن التحرر ممكن بالطرق السلمية و بالضغط السياسي و الدولي؟ لماذا نفرض على الفلسطينيين أن يتبعوا المثال الجزائري رغم اختلاف الفترة و نوع المستعمر و الجغرافيا و نوعية الأسلحة و كل شيء؟ لماذا يُمنع على الفلسطينيين استعمال طريقة منديلا و غاندي لتحرير وطنهم، و هي الطريقة التي أثبتت نجاعتها؟[3]

أستغرب لماذا يصرّ كثير من الجزائريين على التفاخر بعدد الشهداء في ثورتهم التحريرية. تخيّلوا لو أن لجنة من مؤرخين جزائريين قامت بدراسة علمية دقيقة ومحايدة، وراجعت العدد إلى نحو مئتي ألف مثلًا، فهل سيكون ذلك انتقاصًا من قيمة الثورة؟ بالعكس، سيُظهر أن الاستقلال انتُزع بأقل الخسائر، وأن القيادة كانت أكثر حكمة وفاعلية في تكتيكاتها واستراتيجياتها. فلماذا يغضب البعض إذا قيل إن العدد ربما كان أقل مما هو متداول، بدل أن يفرحوا بذلك؟  ولماذا يقبل البعض اليوم فكرة أن من “الطبيعي” أن يستشهد 10٪ من سكان غزة، لمجرد أن الجزاير فقدوا النسبة نفسها زمن التحرير، مع أن الظروف الدولية تغيّرت كليًا، وأصبح من الممكن انتزاع الحقوق بطرق سلمية كما حدث في جنوب إفريقيا؟ [3]

خلال الثورة الجزائرية، كان ردّ الاستعمار الفرنسي على عمليات المقاومة يأخذ شكل أعمال انتقامية محدودة في الزمان والمكان، تستهدف بعض المدنيين. أما في غـ.ـزة، فإن العدو الإسـ.ـرائيـ.ـلي المجرم يستغل أي عملية للمقاومة ذريعة لتنفيذ مخطط إبادة شامل يطال المدنيين جميعًا ويهدد وجود الشعب الفلسطيني نفسه. هذا الفارق جوهري، ويجعل أي مقارنة بين التجربتين غير منطقية. لذلك كان استمرار القتال في الثورة الجزائرية مبرَّرًا، لأن وجود الجزائري على أرضه لم يكن مهددًا بالزوال، بينما في غـ.ـزة يصبح الإصرار على القتال، مع إدراك أن العدو يوظفه لاقتلاع الناس من أرضهم، جريمة لا تُغتفر. [3]


محمد العياشي بلمعلم



[1]  - المليون ونص شهيد جزائري هم مجموع ضحايا الاستعمار الفرنسي منذ عام 1830 حتى التحرير.

[2]  - انظر مقال للأستاذ جميل عبد النبي، منشور في صفحته على فيسبوك.

[3] - انظر محمد خوازم، مقال بموقعه على الفيسبوك.

 



اقرأ المزيد

 

- د. سلمان الداية ،يا ليت قومي يعلمون - رسالة في الجهاد ، منشور مجلة البحوث الإسلامية - العدد 13، مارس 2017، الصفحات من 109 الى 162،   

 

- د. سلمان الداية ،أَيُّهَا السَّاسَةُ: أَوْقِفُوا هَذَا الْمَدَّ، منشور، موقعه الفيسبوك، بتاريخ 6 نونبر 2024، 


- د. سلمان الداية ، أيّها السّاسة والقادة.. لا تنزع الرّحمة إلّا من شقيّ، نشرته جريدة الأمة الإلكترونية، في جزئين، بتاريخ 21 أبريل 2025، 

 

- د. سلمان الداية ،أَيُّهَا السَّاسَةُ وَالْقَادَةُ وَالْعُلَمَاءُ.. لَسْنَا قَطِيعَاً مِنَ الْمَاشِيَةِ فِي أَرْضِكُمْ ، موقع الشيخ بالفيسبوك، بتاريخ 21 يوليوز 2025،

 

- د. سلمان الداية ، دفع الإلتباس ، موقع الشيخ بالفيسبوك، بتاريخ غشت 2025،

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حصيلة الطوفان : 7 أكتوبر 2023 - 7 أكتوبر 2025، م ب

  السنة الأولى : 7 أكتوبر 2023 – 7 أكتوبر 2024:  7 اكتوبر 23 : نصر من الله للفلسطينيين:  18 أكتوبر 2023، ف : مستشفى بمرضاه بأطبائه كل شي قتل...