الاثنين، 28 يوليو 2025

يا ليت قومي يعلمون - رسالة في الجهاد، بقلم أ.د. سلمان بن نصر الداية


يا ليت قومي يعلمون - رسالة في الجهاد

بقلم: أ.د. سلمان بن نصر الداية.

أستاذ الفقه وأصوله، بكلية الشريعة والقانون، بالجامعة الإسلامية، غزة، فلسطين.

 

المصدر: مجلة البحوث الإسلامية - العدد الثالث عشر، جمادى الآخرة ١٤٣٨هـ، الموافق مارس 2017، مصر، الصفحات من 109 الى 162،

لمزيد من عناصر التوثيق بشكل كامل انظر هنا

رابط المحتوى من موقع مجلة البحوث الإسلامية من هنا

 

نعيد نشر البحث هنا تعميما للفائدة، فنحن في أشد الحاجة لمثل هاته البحوث، التي تبين حكم الجهاد في حال العجز والضعف، وشروط إقامته، وحكمه مع القائد المندفع ، في زمن أخذ الساسة وبعض "العلماء" التابعين قرارات شن حروب، تجر على الشعب الفلسطيني الويل والقتل والتجويع وسائر صنوف العذاب.

نعيد نشر البحث بدون هوامش، من أراد البحث كاملا، يمكن الاطلاع عليه من مصدره هنا

ملخص البحث:

تناول البحث حكم جهاد العدو من جهة مقاصدية، حيث بينت فيه: حقيقة الجهاد في اللغة والاصطلاح، ومراتبه، ومشروعيته في حفظ مقاصد الشريعة الكلية، وعلاقته بمقصد الشرع، وحكمه حال العجز والضعف، وشروط إقامته، وحكمه مع القائد المندفع.

المقدمة:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، ونَستَغفِرهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه ولَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: ۱۰۲]. ﴿يَا أَيُّهَـ النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: (). يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصلح لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطع اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: ۷۰، ۷۱]، وَبَعْدُ: فَقَدْ أَفَادَتْ نُصُوصُ الْوَحْيَيْنِ قُرْآنَا وَسُنَّةَ أَنَّ الْجِهَادَ ذِرْوَةَ سَنَامِ الْإِسْلَامِ، وَالَّذِي بِهِ يُصَانُ الدِّينُ وَالنَّفْسُ وَالْعَرْضِ وَالْمَالُ، وبه يَنْعَمُ النَّاسُ بالسُّؤدُدِ فِي الدُّنْيَا، وَأَعَلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ.

وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ كَغَيْرِهِ مِنْ التَّكَالِيْفِ الشَّرْعِيَّة ؛ أَولَاهُ الشَّارِعُ الْحَكِيْمُ اهْتِمَامَاً جَلَّى به أَحْكامَهُ مُبْتَدَى وَمُنْتَهَى، حَقيقَةٌ، وَوَسَيْلَةً، وَمَالاً، لَا يَصْلُحَ تَغَافُلُهَا. وَلَقَدْ ص 109،

أَنْعَمْتُ النَّظَرَ فِي وَاقِعِ الْأَمْصَارِ الْمُسْلِمَةِ فَوَجَدْتُهُ أَبْعَد مَا يَكُونُ عَنْ الصُّورَةِ الَّتِي خَطْهَا الشَّارِعُ لِلْجِهَادِ؛ وَلِذَا فَإِنا نَرَى أَهْلَهُ فِي رُجُوعِ فَهَقَرِيٌّ عَلَى كُلِّ صَعِيْد بَعْـ أَذْعَرُوْا عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ، وَأَظْهَرُوا فِيْهِمْ الْحَمِيَّةِ وَالطَّيْشِ، وَجَاؤُوهُمْ بَخَيْلِهِمْ وَرَجَلِهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمَنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، يُطَارِدُونَ دِينَهُمْ، وَيُرْهِقُونَ أَرْوَاحَهُمْ، وَيَنْتَهِكُونَ أَعْرَاضَهُمْ، وَيَنْتَهِبُوْنَ أَمْوَالَهُمْ، فَرَأَيْتُ لِزَامَاً عَلَيَّ أَنْ أُجَلِّيَ الْحَقِيقَةَ لِشَبَابِ الْإِسْلَامِ عَنْ مَاهِيَّة الجهاد وبواعثه وَمَالَاته. واللهَ أَسْأَلُ التَّوقِيْقَ وَالسَّدَادَ.

إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَ أحكامَ الشَّرِيعَةِ وَسَائِلَ لِحِفْظِ مَصَالِحٍ الْعِبَادِ، الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى مَقَاصَدَ (۱) كُلِّيَّة خَمْسٍ، هي حِفْظُ  ِالدّينِ وَالنَّفْسِ والعَقْلِ وَالنَّسَلِ وَالْمَالِ، وَإِنَّكَ لَا تَجِدُ حُكماً شرعياً قط إلا حارساً لواحدة من هذه المقاصد عَلَى مَرَاتِبِهَا الثلاث الضَّرُوريَّة (٢) وَالحَاجِيَّة (٣) وَالتّحسينيَّة (٤)، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ جُمْلَةٍ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، بَلْ هُوَ مَنْ أَجَلُّهَا وَأَشْرَفهَا وَأَعْلَاهَا مَنْزِلَةَ، جَاءَ فِي حَدِيْثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ هِ أَن النبي قال له: (أَنَا أُخبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلُّه وَعَمُودِهِ وَدَروَة سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: رَأْسَ الْأَمْرِ الْإِسلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ) (*) وَلَئِنْ كَانَتْ العِبَادَاتُ وَسَائِلَ فِي حِفْظ الدِّيْنِ، وَالمُعَامَلَاتُ وَسَائِلَ فِي حِفْظِ المَالِ، وَالحُدُودُ وَالقَصَاصُ وَسَائل في حفظ النفس والعرض، فَإِنَّ الْجِهَادَ وَسَيْلَةٌ فِي حفْظَ المَقَاصِدَ كُلِّهَا، فَإِنَّ المُستَقرى لأدلّة السَّمع يَجِدُ الشَّارِعَ قَدْ شَرَعَ الجِهَادَ لحفْظ الدين، والنفس، والعرض، والمَالِ، وَهَاكَ بَعْضَ مَا يُثبت ذلكَ:

أولا: حقيقة الجهاد في اللغة والاصطلاح

أ. حقيقة الجهاد في اللغة:

جَهْدَ الْجِيمُ وَالْهَاءَ وَالدَّالُ، أصلِّ بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ، ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا يُقَارِبُهُ. يُقَالُ: جَهَدْتُ نَفْسِي وَأَجْهَدْتُ، وَالْجُهْدُ الطَّاقَةُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جَهْدَهُمْ (٦) ، والجِهَادُ ، بِالْكَسْرِ : القِتَالُ معَ العَدُوِّ، كالمُجَاهَدَة، قَالَ الله تَعَالَى: وَجَاهِدُوا فِي الله () ، يُقَال : جَاهَدَ العَدوَّ مُجاهدةً وجَهَاداً: قاتله ().

ب حقيقة الجهاد في الاصطلاح

قلت : هُوَ بَدَلَ الْوُسْعِ فِي دَفْعِ حَرْبِيِّ لِبَاعِتْ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ.

شرح التعريف:

"بذل الوسع": يَسْمَلُ النَّفْسَ وَالْمَالَ .

- فِي دَفْعِ الدَّفْعُ أُولَى مِنْ الْقِتَالِ؛ لِئَلَّا يُذْكَرَ المُعَرَّفُ فِي التَّعْرِيْفِ، فَضَلَا عَنْ أَنَّهُ ص 110، أَعَمُّ مِنْهُ؛ لأَنَّهُ يَشْمَلُ الدَّفْعَ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَاللَّسَانِ.

- "حَرْبِيَّ": الْحَرْبِيُّ هُوَ الْكَافِرُ الَّذِي يَنْتَمِي لِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَيْسَ مِنْهُ الدِّمِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ حَالَ سَريَان عَقد الأمان.

"البَاعِتْ مُعْتَبَر فِي الشرع": يشمل حفظ الدِّيْنِ والنفس والْعِرْضِ وَالْمَالِ وَالْأَوْطَانِ.

ثانيا : مراتب الجهاد

قسمَ الْعَلَمَاءُ الْجِهَادَ إِلَى ثَلَاثَةَ مَرَاتِبَ، هَاكَ بَيَانَهَا:

الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : جهَادُ النَّفْس وَهُوَ إِرْغَامُهَا عَلَى طَاعَة الله، وَمُخَالَفَتُهَا فِي مَعْصِيَة الله، وَتَحْرِيْضُهَا بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلك (١) ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (١٠).

أَفَادَ الْمُفَسِّرُوْنَ فِي تَأْوِيْلَهَا أَنَّهَا فِي مُجَاهَدَة النَّفْس بِحَمَلَهَا عَلَى الطَّاعَةِ وَتَرَكِ الْمَعْصِيَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ (۱۱)، فَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ مَنِ الْمُسْلِمُ؟ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ) (۱۲) ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْجِهَادِ: ابْدَأُ بِنَفْسِكَ، فَجَاهِدْهَا، وَابْدَأُ بِنَفْسِكَ، فَاعْرُهَا (۱۳)، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب : أَوَّلُ مَا تُنْكَرُونَ مِنْ جَهَادِكُمْ أَنفُسَكُمْ (١).

وَجَهَادُ النَّفْسِ يَكُونُ عَلَى أَرْبَعَ مَرَاتِبَ:

الأُولَى: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلّمِ الْهُدَى وَدِيْنِ الْحَقَ الَّذِي لَا فَلَاحَ لَهَا وَلَا سَعَادَةَ فِي معاشها وَمَعَادها إلا به، وَمَتَى فَاتَهَا عِلْمُهُ شَقِيت في الدارين.

المرتبة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَل إِنْ لَمْ يَضُرَّهَا لَمْ ينفعها.

المرتبة الثَّالِثَةُ : أَن يُجَاهِدَهَا عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ، وَإِلَّا كَانَ مِنْ الَّذينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ منْ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ، وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ، وَلَا يُنْجِيْهِ مِنْ عَذَابِ

المرتبة الرابعَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَشَاقٌ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَأَذَى الْخَلْقِ، وَيَتَحَمَلَ ذَلكَ كلَّه الله.

فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنْ الرَّبَانِيِّيْنَ، فَإِنَّ السَّلَفَ مُجْمَعُونَ ص 111، عَلَى أَنَّ الْعَالِم لَا يَسْتَحقَّ أَنْ يُسَمَّى رَبَّانِيَّاً حَتّى يَعْرِفَ الْحَقَّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلِّمَهُ، فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِل وَعَلَمَ فَذاكَ يُدْعَى عَظِيْمَا فِي مَلَكُوتُ السَّمَاوَات (١٥).

الْمَرتبَةُ الثَّانِيَةُ: جِهَادَ الشَّيْطَانِ: وَهُوَ جِهَادَهُ عَلَى نَفْعِ مَا يُلْقِي إِلَى الْعَبْدِ مِنْ الشُّبُهَاتِ، وَالشَّهَوَاتِ الَّتي تُعْطِبُ الْقَلْبِ (١٦) ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (۱۷)، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١) ، قَالَ قَتَادَةُ وَالسَّدِي: كُلُّ مَعْصِيَة الله

فهِيَ مِنْ خَطُوَاتِ الشَّيْطَان (۱۹). وَجهَادُ الشَّيْطَانِ مَرْتَبَتان :

إِحْدَاهُمَا: جِهَادَةً عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إِلَى الْعَبْدِ مِن الشُّبُهَاتِ، وَالسُّكُوكِ الْقَادِحَة فِي الإِيْمَانِ.

الثَّانِيَةُ : جِهَادَهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إِلَيْهِ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشَّهَوَاتِ، فَالْجِهَادُ الْأَوَّلُ يَكُونُ بَعْدَهُ الْيَقِيْنُ، وَالثَّانِي: يَكُونُ بَعْدَهُ الصَّبْرُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٠) ، فَأَخْبَرَ أَنَّ إِمَامَةَ الدِّيْنِ إِنَّمَا تُنَالُ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِيْنِ ، فَالصَّبْرُ يَدْفَعُ الشَّهَوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الفَاسِدَةِ، وَالْيَقِيْنُ يَدْفَعُ الشكوكَ وَالشُّبُهَاتِ (۲۱) .

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : جِهَادُ الْكَفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ: هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي دَفْعِ الْكُفَّارِ ، وَوَعْظِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِحُكْمِ النِّفَاقِ وَعُقُوبَتَهِ عِندَ اللهِ، وَكَشفِ صِفَاتِهِمْ، وَالتَّحْذِيْرِ مِنْ مجامعتهمْ، وَالْحَيْطَة مِنْ غَدْرِهِمْ، وَهُوَ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ: بِالْقَلْبِ، وَالْلْسَانِ، وَالْمَالِ، وَالنَّفْسِ، وَجِهَادُ الْكَفَّارِ أَخَصُّ بِالْيَدِ، وَجهَادُ الْمُنَافِقِيْنَ أَخَصُّ بِالْنِّسَانِ (۲۲)، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكَفارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاعْلَظْ عَلَيْهِمْ (۲۳)، وَعَنْ أَنَسِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ) (٢٤).

ثالثًا: مَشروعيَّةُ الْجهاد في حفظ الدِّين :

١ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةً ويَكُونَ الدِّينُ لله فَإن انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (٢٥).

. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٦). ص 112،

٣. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أَقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤتوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي لِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقَ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) ٤. وعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (۲۸) . ه. وقال رِبْعِيِّ بْنِ عَامِرٍ لِرَسُتُمْ مَلِكِ فَارِس : "جِبْنا لنخرجَ الْعِبَادَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عبَادَةِ رَبِّ العِبَادِ، وَمِنْ جَوْرٌ الأَدْيَانِ إِلَى عَدلِ الإِسْلَام وَمَنْ صَيْقِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَة الدُّنْيَا وَالآخرة (٢٩).

فأنت ترى أنَّها ظَاهِرَةُ الدَّلَالَة فِي وُجُوب الجهاد، دَفْعاً لَفِتْنَةِ الشَّرْكَ عَن الدِّيْنِ، لِيَظل قَائِمَا فِي حَيَاةِ الناسِ عَلَى تَمَامٍ وَكَمَالٍ، وَفِي قِتَالِ الكفَّارِ استنقاذا لَهُمْ مِنْ جَهَالَةِ النفسِ وَعَوَايَة الشَّيْطانِ إِلى سَبِيلِ الرَّحْمَن وَالنجَاةِ مِنَ الخَيْرَانِ.

رَابعًا: مَشروعية الجهاد في حفظ النفس :

١. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَقَاتِلُوا في سَبيل الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٣٠). ۲. وقال الله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣١). ٣. وقال الله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْث ثقفتموهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (۳۲) . أوجبت الآيات قتال المعتدي حفظاً للنفس وإدراكاً لسلامتها.

خامساً: مَشْرُوعِيَّةُ الْجهاد في حفظ العرض:

عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ دُونَ أهْلِه أَوْ دُونَ دَمَه أَو دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) (۳۳)، وعن رافع بن خديج صلى الله عليه وسلم قال: لَمْ يَكُنْ حِصْنَ أَحْصِنَ مِنْ حِصْنِ بني حارث، فَجَعَلَ النبيُّ النَّسَاءَ وَالصَّبْيَانَ وَالذُّرَارِي فِيهِ، فَقَالَ : (إنْ) أَلَم بكُنَّ أَحَدٌ فَالْمَعْنَ بالسَّيْف) ، فَجَاءَهُنَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ

بن سَعْدِ يُقَالُ لَهُ: يُجْدَانُ أَحَدٌ بني جَحَّاشٍ عَلَى فَرَسٍ، حَتَّى كَانَ فِي أَصْلِ الْحِصْنِ جَعَلَ يَقُولُ لِلنِّسَاءِ: انْزِلَنْ إِلَيَّ خَيْرٌ لَكُنَّ، فَحَرَّكَنَ السَّيْفَ فَأَبْصَرَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ، ص 113، فَابْتَدَرَ الْحَصْنَ قَوْمٌ فِيهِمْ رَجُلٌ من بني حَارِثَةَ، يُقَالُ لَهُ: زُهَيْرُ بن رَافِعٍ، فَقَالَ: يَا يُبْدَانُ أَبْرِرْ فَبَرَزَ إِلَيْهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَرَسَهُ فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ رَأْسَهُ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ

وَجَاءَ في سيرة ابن هشام ما نصه: كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاعِ أَنَّ امْرَأَةَ مِنَ العَرَبِ قَدِمَتْ بِجَلَبِ لهَا، فَبَاعَتْهُ بِسُوقٍ بَنِي فَيْنقَاعِ، وَجَلَسَت إِلَىٰ صَائِغِ بِهَا، فَجَعَلُوا يُرِيْدُونَهَا عَلَىٰ كَشْفِ وَجْهِهَا، فَأَبَتْ ، فَعَمِدَ الصَّائِعُ إِلَى طَرَفِ ثَوْبِهَا، فَعَقَدَهُ عَلَىٰ ظَهْرِهَا، فَلَمَّا قَامَتْ انْكَشَفَتْ سَواتُهَا، فَضَحَكُوا بِهَا، فَصَاحَتْ، فَوَثَبَ رَجُلٌ من المُسلِمِينَ عَلَى الصَّائِعِ، فَقَتَلَهُ، وَكَانَ يَهُودِيَّاً ، وشَدَّت اليَهُودُ عَلَى المُسْلِمِ فَقَتَلُوهُ، فَاسْتَصْرَحَ أَهْلُ المُسلِم المسلمين عَلَى اليهود، فَغَضِبَ المُسْلِمُونَ، فَوَقَعَ الشَّرُّ بَيْنَهُمُ وبين بني قينقاع (٣٥). وأورد ابن القيم: أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، كَانَ مُوَادِعَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جُمْلَةٍ مَنْ وَادَعَهُ مِنَ اليَهُود... فَلَمَّا قتل أهل بَدْر ، شَقَ ذَلكَ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ، وَرَثَاهُمْ، وَفَضَّلَ بَيْنَ الجَاهِلِيَّةِ عَلَى دِيْنِ الإِسْلَامِ. .. ثُمَّ لَمَا رَجَعَ إِلَى المَدِينَةِ أَخَذَ يُنشِدُ الأَشْعَارَ، ويُشْبِ بِنَسَاءِ المُسلِمِيْنَ حَتَّى آذَاهُمْ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ : (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَف ؟ فَإِنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (٣٦)

فَهَذِهِ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الأَحَادِيثِ تُقَرِّرُ مَشْرُوعِيَّةَ الجِهَادِ فِي حفظ العِرْضِ مِنْ أَنْ يُنالَ بِأْذَى وَلَو فِي المَعْنَى دُونَ الحقِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَرَّضَ أَصْحَابَهُ عَلَى قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَف جَزَاءَ أَنَّهُ كَانَ يُشَبِّبُ بِنِسَاءِ المُسلِمِينَ وَيَنْتَقِصُ أَعْرَاضَهُنَّ.

سادسا: مشروعية الجهاد في حفظ المال :

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرُو قَالَ : سَمِعت النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) (۳)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخَذَ مَالِي قَالَ : فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي قَالَ: (قَاتِلْهُ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي ، قَالَ : فَأَنْتَ شَهِيدٌ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ، قَالَ: (هُوَ فِي النَّارِ) (۳۸)، وَعَنْ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِهِ قَالَ: خَرَجْتُ قَبْلَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِالْأُولَى وَكَانَتْ لِقَاحٌ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْعَى بِذِي قَرَدَ قَالَ: فَلَقِيَنِي غُلَامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ فَقَالَ: أُخِذَتْ لِقَاحٌ رَسُولِ اللهِ ، قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا ؟ قَالَ: عَطَفَانٌ فَصَرَحْتُ ثَلَاثَ صَرَخَاتِ يَا صَبَاحَاهُ، قَالَ: فَأَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ انْدَفَعْت ص 114،

عَلَى وَجْهِي حَتَّى أَدْرَكْتُهُمْ وَقَدْ أَخَذُوا يَسْتَقُونَ مِنْ الْمَاءِ فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ بِنَبَلِي وَكُنْتُ رَاميًا وَأَقُولُ:

أَنَا ابْنُ الْكُوَعْ   وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرَّضِعِ

وَأَرْتَجرُ حَتَّى اسْتَنقَذْتُ اللقَاحَ مِنْهُمْ وَاسْتَلَبْتُ مِنْهُمْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً قَالَ: وَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ قَدْ حَمَيْتُ الْقَوْمَ الْمَاءَ وَهُمْ عِطَاسٌ فَابْعَتْ إِلَيْهِمْ السَّاعَةَ فَقَالَ: (يَا ابْنَ الْأَكْوَع مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ قَالَ: ثُمَّ رَجَعْنَا وَيُرْدِفَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ناقته حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ (٣٩).

وَعَنْهُ هِ عَنْ أَبِيْهِ: فِي حَدِيْث طويل : "... قَالَ: ثُمَّ خَرَجْنَا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَة فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا بَيْنَنَا وَبَيْن بَنِى لَحْيَانَ جَبَلٌ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَاسْتَغْفَرَ رَسُولُ الله لِمَنْ رَقِيَ هَذَا الْجَبَلَ اللَّيْلَةَ كَأَنَّهُ طَلِيعَةٌ للنَّبِيِّ وَأَصْحَابه قَالَ سَلَمَةُ: فَرَقيتُ تِلْـ اللَّيْلَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحٍ غُلَامٍ صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَهُ وَخَرَجْتُ مَعَهُ بفَرَس طَلْحَةَ أنديه مَعَ الظُّهْرِ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْر رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَاقَهُ أَجْمَعَ وَقَتَلَ رَاعِيَهُ قَالَ فَقُلْتُ: يَا رَبَاحٌ خُذْ هَذَا الْفَرَسَ فَأَبْلِغْهُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَخْبِرْ رَسُولَ اللَّهِ * أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَغَارُوا عَلَى سَرْحِهِ، قَالَ : ثُمَّ قُمْتُ عَلَى أَكَمَةِ فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ

فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا يَا صَبَاحَاهُ ثُمَّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ أَرْمِيهِمْ بِالنَّبَلِ وَأَرْتَجِرُ أَقُولُ: أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضْعِ

فَالْحَقِّ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصَكَ سَهْمَا فِي رَحْلِهِ حَتَّى خَلَصَ نَصْلُ السَّهْمِ إِلَى كَتِفِهِ

قال قلت : خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ  وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرَّضَعِ

قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ فَإِذَا رَجَعَ إِلَيَّ فَارِسٌ أَتَيْتُ شَجَرَةً فَجَلَسْتُ في أصلهَا ثُمَّ رَمَيْتُهُ فَعَقَرْتُ بِهِ حَتَّى إِذَا تَضايَقَ الْجَبَلُ فَدَخَلُوا فِي تَصَايْقِهِ عَلَوْتُ الْجَبَلَ فَجَعَلْتُ أَرَدّيهِمْ بِالْحِجَارَة قَالَ: فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ أَتْبَعُهُمْ حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ بَعِيرٍ مِنْ ظَهْرٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا خَلَفْتَهُ وَرَاءَ ظَهْرِي وَخَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ أَرْمِيهِمْ حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً وَثَلَاثِينَ رَمْحًا يَسْتَخِفُونَ وَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا مِنْ الْحَجَارَة يَعْرِفُهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى أَتَوْا مُتَصَايِقًا مِنْ ثَنِيَّةٍ فَإِذَا هُمْ قَدْ أَتَاهُمْ فَلَانُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ فَجَلَسُوا يَتَصَحَّوْنَ يَعْنِي يَتَعَدَّوْنَ وَجَلَسْتُ عَلَى رَأْس قَرْن قَالَ الْفَزَارِيُّ مَا هَذَا الَّذِي أَرَى قَالُوا: لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرْحَ وَالله مَا فَارَقَنَا مُنذ عَلَس يَرْمِينَا انتزع كل شَيْءٍ فِي أَيْدِينَا قَالَ : فَلْيَقَمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنكُمْ أَربَعَةً قَالَ فَصَعِدَ إِلَيَّ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ فِي الْجَبَلِ قَال: فَلَمَّا أَمَكنُونِي مِنْ الْكَلَ الْكَلَامِ قَالَ: قُلْتُ هَلْ تَعْرِفُونِي قَالُوا: لَا وَمَنْ أَنتَ ؟ قَالَ: قُلْتُ أَنَا سَلَمَةُ بْنَ الْأَكْوَعِ وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ لَا أَطْلُبُ رَجُلًا مِنْكُمْ إِلَّا أَدْرَكْتُهُ وَلَا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكَني صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَحَدُهُمْ أَنَا أَظُنُّ قَالَ: فَرَجَعُوا فَمَا بَرحْتُ مَكَانِي حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُول اللَّه يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ قَالَ: فَإِذَا أُولُهُمْ الْأَخْرَمُ الْأَسَدِيٌّ عَلَى إِثْرِهِ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ وَعَلَى إِثْرِهِ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِي قَالَ: فَأَخَذْتُ بِعِنانِ الْأَخْرَمِ قَالَ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ قُلْت يَا أَخرَمُ احْذَرْهُمْ لَا يَقْتَطعُوكَ حَتّى يَلْحَقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ قَالَ: يَا سَلَمَةُ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقَّ فَلَا تَحْلُ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ قَالَ: فَخَلَّيْتُهُ فَالْتَقَى هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَن قَالَ: فَعَقَرَ بعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرَسَهُ وَطَعَنَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ وَتَحَولَ عَلَى فَرَسه ولَحقِّ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِعَبْد الرَّحْمَنِ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ فَوَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ لَتَبِعْتُهُمْ أَعْدُو عَلَى رِجَلَيَّ حَتَّى مَا أَرَى وَرَائِي مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد وَلَا عُبَارِهِمْ شَيْئًا حَتَّى يَعْدِلُوا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلى شعب فِيهِ مَاءً يُقَال لَهُ ذُو قرد ليَشرَبُوا مِنهُ وَهُمْ عطاش قَالَ: فَنَظُرُوا إِلَيَّ وَرَاءَهُمْ فَخَلَّيْتُهُمْ عَنهُ يعني أَجَلَيْتُهُمْ عَنْهُ فَمَا ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً قَالَ وَيَخْرُجُونَ فَيَسْتَدُّونَ فِي ثَنِيَّةٍ قَالَ فَأَعْدُو فَالْحَقِّ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصَكَهُ بِسَهُم فِي نُعْضٍ كَتِفِهِ قَالَ قُلْتُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنَ الْأَكْوَعَ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرَّضِعِ

قَالَ: يَا ثَكِلَتْهُ أُمَّهُ أَكْوَعُهُ بُكْرَةَ قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ أَكْوَعَكَ بُكْرَةَ قَالَ: وَأَرْدَوْا فَرَسَيْنِ عَلَى ثَنِيَّة قَالَ : فَجِئْتُ بهِمَا أَسْوقُهُمَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَلَحقَني عَامِرٌ بِسَطَيحَة فِيهَا مَدْقَة مِنْ لَبَن وَسَطيحَة فِيهَا مَاءً فَتَوَضَاتُ وَشَرِبْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمَاء الذي حلّاتُهُمْ عَنْهُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الْإِيلَ وَكُلِّ شَيْءٍ اسْتَنقذتهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكُلٌّ رَمْحِ وَبُرْدَة... وذكر الحديث بتمامه (٤٠).

هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ظَاهِرَةُ الدَّلَالَةِ فِي مَشْرُوعِيَّة الجِهَادِ فِي حِفْظِ المَالِ، فَإِنَّ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ لَمْ يَزَلْ يُطَارِدُ من اعْتَدَى عَلَى إِبل النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى اسْتَنقَذَهَا كُلَّهَا، وَقَدْ حصل ذلك بِعِلْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِقْرَارِهِ إِذَا تَجَلَّى لَكَ أَنَّ الجِهَادَ حَافِظٌ لهذه المقاصد آنفة الذِّكْر عَلَى اخْتِلَاف مَرَاتبها ص 116،

الضَّرُورِيَّة وَالحَاجِيَّة وَالتَّحْسِيْنِيَّةِ. وَأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعَ لِذَاتِهِ، شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شَأْنُ جَمِيعِ الْأَحْكامِ فِي كَوْنِهَا شُرِعَتْ وَسَائِلَ لِغَايَاتِ هِيَ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذْ شَرَعَ الْأَحْكامَ فَقَدْ شَرَعَ مَصَالِحَهَا الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا، وَلَا يَكَادُ الْمَرْءُ يُدْرِكُ الْحَقَّ، وَيَبْلُغَ الْأَجْرَ حَتَّى يُوَافِقَ الشَّارِعَ فِيْمَا شَرَعَ حُكْمَا وَمَقْصِدَاً.

قَالَ الْإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ قَصْدُ الشارع من المكلف أن يكونَ قَصَّدُهُ فِي العَمَلِ افقاً لقصدِ اللهِ في التشريع (٤١)، وَرَاحَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ لُبْسِ وَلَا إِيْهَامٍ فَقَالَ: "كُلُّ مَنْ ابْتَغَى في تكاليف الشريْعَة غَيْرَ ما شرعَت لَهُ ، فقد ناقض الشريعةَ، وَكُلَّ مَنْ نَاقَضَهَا فَعَمَلُهُ فِي المُنَاقَضَة بَاطِلٌ، فَمَنْ ابْتَغَى في التكاليف مَا لَمَ تُشْرَحْ لَهُ فَعَمَلُهُ باطل (٤٢) ، وقَالَ أَيْضاً - : لمَّا أَنَّ العَمَلُ المُناقض باطل، فَظَاهِرٌ، فَإِنَّ المشروعات إنما وُضعت لِتَحْصِيلِ المَصَالِحٍ، وَدَرْءِ المَفَاسِدِ، فَإِذَا خُولِفَتْ لَمْ تَكُنْ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالَ التي خلفت بها جلب مصلحة ولا دَرْءُ مَفْسَدَة (٤٣).

وَقَالَ الْعِزَّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: أَمَّا مَصَالِحُ الدَّارَيْنِ وَأَسْبَابُهَا وَمَفَاسِدُهَا فَلَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالشرع، فإن خَفَى مِنْهَا شَيْء طلب مِنْ أدِلَّةِ الشرع وهي: الكتاب والسُّنَّةُ والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيحُ كَمَا بَيْنا آنفاً (٤٤).

وَعْوَدَا إِلَى الشَّاطِبِيِّ إِذْ يَقُولُ: "إِنَّ كَوْنَ الْمَصْلَحَةِ مَصْلَحَةً تُقْصَدُ بِالْحُكْمِ ، وَالْمَفْسَدَةَ كَذَلِكَ مِمَّا يَختَصُّ بالشارع لَا مَجَالَ لِلْعَقلِ فِيْهِ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَة نفـ التحسينِ والتقبِيحِ، فَإِذَا كَانَ الشارع قَدْ شرع الحكم لمصلحة فَهُوَ الوَاضِعُ لـ مصلحة، وإلا فكان يمكن عقلاً ألا تكون كذلك (٤٥).

فالمصالح إذن مِنْ وَضع الشارع الحكيم، ودورُ المَجَتَهِدِ قَاصِرٌ عَلَيَّ تَحرِّي هَذِهِ المَصَالِحِ فِيْمَا خَلَا الأَحكام التعبَّدِيَّةَ - وَتَخْرِيْجِهَا بِمَسَالِكَ مَعْرُوفَةً، ثُمَّ التَحَقَّقِ مِنْ وَجَوْدِهَا فِي مَحَالِّهَا الطَّارِئَةِ، وَبِنَاء الأحكام عَلَيْهَا أَوْ عَلَى جِنْسِهَا، حَتَّى إِذَا أَعْوَزَ المجتَهِدَ نَوْعُ المَصْلَحَةِ المُعْتَبَرَةِ أَوْ جِنْسِهَا رَتَّبَ الحكم على مصلحة لم يَشْهَدْ الشَّارِعُ لها بالاعتبار أو الإلغاء، عملاً بما يسمى "المصالح المرسلة" وبشُروط مُعَيَّنَةٍ، وَذَلَكَ تَفَادِيَا مِنَ الوَقُوْع فِي الْخَطَل فِي الرَّأْيِ وَالحُكْم بالهَوَى، وَتَعْمِيْمَا لِحُكم الله، وتنفيذاً لإرَادَتِه تَعَالَى فِي أَوْسَع مَدَى، فَلَيْسَ لِلْمُجتَهِد إذَنْ سُلْطَةُ ابْتِدَاعَ المَصَالح، وَإِنَّا لَزِمَ تَأْسِيْسُ فِقه جَدِيدِ، وَهُوَ اعْتِدَاء عَلَى حَقَّ الله في التشريع، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّاطِبِيُّ بِهَذَا المَعْنَى بقوله: " وَأَمَّا تَحْرِيْمُ الحَلَالِ، وَتَحْلِيلُ الحَرَامِ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَمِنْ حَقٌّ اللَّهِ تَعَالَىٰ، ص 117،

لِأَنَّهُ تَشْرِيع مُبْتَدَاً، وَإِنْشَاءُ كُلِّيَّة شَرْعِيَّة أَلْزَمَهَا العِبَادَ، فَلَيْسَ لَهُمْ فِيْهَا تَحَكَّمْ، إِذْ لَيْسَ للعقُول تَحْسِينٌ وَلَا تَقْبِيحٌ تُحل به أَوْ تُحَرِّمُ، فَهُوَ مُجَرَّدُ تَعَدُّ فِيْمَا لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ نصيبٌ، فَلَذَلكَ لَمْ يَكُن لأحد فيهوَلَا أَرَاهُمْ قَدْ قَالُوا هَذَا إِلَّا عَنْ تَأمل رائث، ونَظَرِ ثَاقِبِ، وَفَهُم دَقِيقَ لِسُنَّةِ الشارع في التشريع، فَإِنَّهُ ظَاهر لكُلِّ بَصير مُتَجَرِّد، ولِكُلِّ عَالَم مُتَحَرِّرَ أَنَّ الْمَرْةَ لَا يُدْرِكُ عَيْنَ الحَقيقَة، وَلَا يَبْلُغَ المَصْلَحَةَ المَقْصُوْدَةَ إِلَّا إِذَا أَدْرَكَ الحُكْمَ الشَّرْعِيَّ مَاهِيَّةً وَمَقْصِدَاً، فَلَوْ أَدْرَكَ الحُكْمَ عَلَى صُورَةِ الشَّرْعِ مَعْ فَوْتِ المَقْصِدِ، وَفَسَادِ المَالِ (المصلحة)، انْعَكَسَ حُكْمُ الْفِعْلِ إِلَى المَنْعِ، وَلَوْ أَنَّهُ أَدْرَكَ الفِعَلَ عَلَى غَيْرِ صُورةِ لَكنَّهُ قَدْ وَافَقَ مَقْصد الشارع وَمَا حَدَّدَ لَهُ مِنْ مَال الْعَكَسَ ذَلِكَ عَلَى حُكم الفعل بالمنع أيضاً- حَتّى يُترك الفعل ماهية ومقصداً، وإليكم نماذج من الأمثلة على ذلك:

٠١ الصَّلَاةُ: إِن أَدَّاهَا العَبْدُ على مُوَافَقَة الشَّرْع ممتثلاً قوله : (صَلَّوْا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أَصَلِّي ) (٤٨)، وخالفها مقصداً وأثراً كانت صلاة فاسدة محرومة الجدوى.

وَمَقَاصِدُ الصَّلَاةِ: خشوع القلب، والتقرب إلى الله تعالى، وحفظ اللسان، واستقامَةُ الجَوَارِح ؛ وأَنَّى لصلاة تجردت عَنْ كُلِّ هَذَا أَنْ تُقْبَلَ، فَأَمَّا عَن مَقْصَد الصَّلَاةِ فِي خُشُوعَ القَلْبِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٤٩) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخشوع: (لَيْسَ لِلْمَرْءِ مِن صَلَاتِه إِلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا) (٥٠) وأما عن مقصد الصلاة في الإخلاص والتقرب إلى الله، فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ)، والمعنى: إنما صحة الأعمال بالنيات، وعَن الضَّحَّاك بن قَيْس الفهري قال : قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : أَنَا خَيْرٌ شَريكَ فَمَنْ أَشْرَكَ مَعى شَرِيكًا فَهُوَ لَشَرِيكي، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أخلصوا أعْمَالَكُمْ للَّه عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ إِلا مَا أُخْلِص لَهُ وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَالرَّحِمِ فَإِنَّهَا لِلرَّحِمِ وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْهَا شَيْءٌ وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِوُجُوهِكُمْ فَإِنَّهَا لِوُجُوهِكُمْ وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْهَا شَيْءٌ) (٥١) ، وعن محمود بن لبيد قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَشِرك السَّرَائِرِ ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا شَرْكُ السَّرَائِرِ؟، قَالَ: يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدَا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَذَلِكَ شرك السَّرَائِرِ ) (٥٢) ، وأما عن مقصد الصلاة في حفظ اللسان واستقامة الجوارح، فقد قــــال ص 118،

الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَـ تَصْنَعُونَ (٥٣)، وفي المقابل فَإِنَّ مَنْ أَدْرَكَ هَذه المقاصدَ أَوْ بَعْضَهَا بِصَلَاة نَاقِصَة في ركنهَا أَوْ شَرْطهَا كَانَتْ صَلَاة بَاطِلَةً. . الصَّوْمُ: مَنْ أداه على موافقة الشرع حقيقة ومقصداً كان صوماً مقبولاً، ومن أخل في واحد منهما كان صوماً مردودا. أما مخالفة الماهية: كَأَنْ يَحْصَلَ خَلَلٌ في أحَدِ رُكْنَي الصَّوْمِ (النية أو الإمساك) المدلول عليهما: بقوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ (٤) ، وبقوله : (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) (٥٥) ، فَإِنْ اخْتَلَّ واحدٌ منهما ولو مع سلامة القصد، وعلم المجانفة للإثم كان الصوم باطلاً، وكذا إذا كان الخلل في شروط صحته كصوم حائض أو نفساء ولو بقصد القُربى كان الصومُ باطلاً كذلك، ولو أنهُ أدْرَكَ الصوم وافر الركن والشرط، لكنه انقتل عَنْ مقصود الشرع مِنْ حفظ اللسان والجوارح من البذاءة والإساءة كان صوماً مردوداً ، فعن أبي هريرة له أنه قَال: قَال : (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَولَ الزَّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) (٥٦)، وعن أبي هريرة له قال : قال رسول الله : (رَبِّ صَائِمٍ حَظِّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَسُ وَرَبَّ قَائِمٍ حَقَّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ)()، وعنه قال: قـــال : (وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمٍ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْقُتْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي أَمْرُو صَائِمٌ) (٥٨) .

.٣ الصَّدَقَةُ لَا تَخْرُجْ عَمَّا ذَكَرْنَا ، فَمَنْ أَدَّاهَا مِنْ حَرِّ مَالِهِ بِقَصدِ فَاسد، أَوْ مَالِ مَحْطُورٍ، كَانَتْ مَرْدُودَةً، كَمَنْ يَتَصَدَّقَ بِالمَالِ رَئَاءَ النَّاسِ، أَو لِيَصدَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ، أو ليهرب من الزكاة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنَّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانِ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلَّدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٥) ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَوَّلَ الناس القِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ استشهدَ فَأْتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ يوم فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لَأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرأ

الْقُرْآنَ فَأتي به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلْتُهُ

وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ ولَكنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعَلّمَ ليُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِيٍّ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافَ الْمَالِ كُلِّه فأتى به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا

قَالَ مَا تَرَكت من سبيل تحبُّ أَنْ يُنفَقَ فِيهَا إِلّا أنفقت فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ) (٢٠). وَمَنْ أَدَّاهَا مِنْ مَالٍ حَرَامٍ، مسروق أو مُنتَهَب أَوْ مَعْصُوبٍ، أَو كَانَتْ حَرَاماً في ذَاتِهَا كخمر أو خنزير ونحوها، ولو مع سَلَامَة قَصد، فإنها مردودة كذلك، ودليله قوله تعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تَنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِأخذيه إِلَّا أَن تغمضوا فيه واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَن حَميدٌ ) (٦١) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا) (٦٢).

٤. الْبَيْعُ: إِذَا أَدْرَكَهُ المَرْءُ عَلَى تَحْدِيدِ الشَّرْعِ حَقِيقَةً وَمَقْصِدَا صَحْ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وبُورِكَ لَهُ فِيْهِ، وَإِنِ احْتَلَ فِي ذَاتِهِ، وَلَوْ أَفْضَى بِصَاحِبِهِ إِلَى الثَّرَاءِ كَانَ مَمْنُوعَاً، وَدَلِيلُهُ حديث جابر بْنِ عَبْدِ الله له قال : قال رسول الله عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: (إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّقُنُ وَيُدْهَنَ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسْفَقَالَ: لَا هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله عندَ ذلك: قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ) (٦٣) وكذا إذا اكتملت حقيقتُهُ وَأَفْضَتْ إِلَى غَيْرِ مَقْصُودِ الشَّرْعَ، كَانَ العَقْدُ محظوراً مثل: بيع العنب لمن يُصيّرة خمراً (٦٤) وبيع الحاضر للبادي (٦٥)، وتلقي الركبان (٦٦)، فكلها ممنوعة حرام.

الْجِهَادُ وَمَقْصدُ الشَّرْع:

إذا تَأَمَّلْتَ هَذَا فَإِنَّ الجِهَادَ مِنْ جُمْلَة هَذه الأحكام ولا يَخْرُجُ عَنْ سَنَنِهَا، فَإِنْ اختل فِي ذَاتِهِ بِأَنْ تَجَاوَزَ المَرْءُ ضَوَابِطَ الشَّرْعِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ جِهَادَا فِي دَفْعِ البُغَاةِ، فَأَجْهَرَ عَلَى جَرَيْحهم، وَأَتْبَعَ فَارَّهُمْ، أو أَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، أَوْ سَبَى ذَرَارِيَهُمْ كَان ممنوعاً؛

ودليله: عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدِ كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى من هَذه الْأُمَّة ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (لَا يُجْهَرُ عَلَى جَرِيحَهَا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا) (۱۷)، وعَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ عَلِيَّا أَمَرَ مُنَادِيْهِ فَنَادَىٰ يَوْمَ ص 120،

البَصْرَةِ: أَلَا لَا يُتْبَعَ مُدْبِرٌ وَلَا يُنَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ، وَمَنْ أَعْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السَّلَاحَ فَهُوَ آمِنْ وَلَا نَأْخُذُ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا (٦) وَإِنْ كَانَ جِهَادَا فِي المُنَافِقِيْنَ، وَتَجاوز الحجة والبرهان إلي السيف والسِّنَانِ كان ممنوعاً؛ لأن النبي

لم يجاهدهم بالسلاح مدة حياته وكان يعاملهم على ظاهر حالهم وهو الإسلام قَالَ ابنُ القَيِّم: وَمَعلُومٌ أَنَّ جِهَادَ المُنَافِقِيْنَ بالحُجَّة والقُرآن (۱۹)، وَإِنْ كَانَ جِهَادَاً في دَفْعِ الكُفَّارِ، فَقَتَلَ المَرْأَةَ، أَوْ الطِّفْلَ، أو المَرِيضِ الزَّمن، أو غَدَرَ أَو مَثْلَ أَو غَلَّ، أو كان جهَادُهُ شَجَاعَةً أو حمية أو رياءً أو نحو ذلك، كان ممنوعاً مناقضاً لدليل الشرع زائغاً عن الهدى، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْن بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أميرًا عَلَى جَيْشِ أَوْ سَريَّة أَوْصَاهُ في خَاصَّته بتَقْوَى اللَّه وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمينَ ـيْرًا ثُمَّ قَالَ: (اغْرُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغْلُوا ولَا تَعْدِرُوا وَلَا تَمَثلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى

ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنهُمْ وَكَفَ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلُ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحول من دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حَكْمُ الله الذي يجري عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْء شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكَفَ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعن بالله وَقَاتِلُهُمْ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حَصْنِ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ دَمَّةَ الله ودَمَّةَ نَبيّه فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ دَمَّةَ الله ولا نمَّةَ نَبيّه ولَكنَّ اجْعَلْ لَهُمْ نِمَتَكَ وَنِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا نِمَمَكُمْ وَنِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا نِمَّةَ اللهِ وَنِمَّةَ رَسُولِهِ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزَلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْم الله ولَكِن أُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا ) (٢٠)

وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ امْرَأَةَ وُجِدَتْ فِي بَعْضٍ مَغَازِي النَّبِيِّ مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ النِّسَاءِ وَالصَّبْيَانِ وكذا إذا كان جهاداً مجرداً عن التوكل على الله (۲)... والاعتصام بشرعه (۷۳)، والاستقَامَةُ عَلَى مقصده (٧٤) ، .. وَرَصَ الصَّف (٧٥) . وَوَحْدَةِ الكَلِمَة (٢٦) ص 121، وعمق الأخوة ()، وَمُوَالَاة المؤمنين (٣) وَالتَّنَاصُرِ بَيْنَهُمْ ومُعاداة الْكَافِرِينَ () . . . وَاسْتَفْرَاغِ الوسع فِي أَسْبَابِ القُوَّةِ (١١) فَإِنَّهُ لَا يَقُوْدُ إِلَى تَحقِيقِ المَقْصد، (۸) ، وَنَجَاحِ المَصْلَحَة.

 

وَكَذَا إِنْ كَانَ صَحِيْحَا فِي ذَاتِهِ قَدْ حَاذَرَ المُجَاهِدُونَ الوُقُوعَ فِيمَا أَسْلَفْنَاهُ لَكنهُم أخطأوا مقصد الشرع منه من حفظ الدِّيْنِ ، أو حفظ النفس أو العرض أو المال، أو لم يَقدُرُوا لِهَذه المقاصدِ قَدْرَهَا، فَإنهُ جِهَادٌ عَاجِرٌ لَا عَلَىٰ هُدَى وَلَا عَلَى مُوَافَقَةِ الشَّرْعِ؛ ولَمَّا كَانَ هَذَا الأَمْرُ عَلَى أَهَمِيَّة كُبْرَى وَأَنَّ بَعْضَ جَبَهَاتِ القِتَالِ فِي الأَمْصَارِ تَذْهَلُ عَنْهُ فتتعجلُ أَمْرَ المُوَاجَهَة ممَّا يُبَرِّرُ للكافر أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَى البلاد المُسْلِمَة تَسَلَّطَاً مُباشراً فَيُهْلكَ حَرثَهَا ونَسَلَهَا ويُذل أهْلَهَا ويهتك عرضها ويلون فِطْرَتَهَا ، والواقع يشهد بذلك في مواطن شتى أرهقت بجهاد عاجز انطَلَقَ مُتَجَرِّداً عنْ تَحقِيقِ الفَهْمِ، وَإعْدَادِ القُوَّة المؤهلة في ردّ عدوان الكافر، وَلَيْتَ شعري لو أَنَّهُمْ اتَّعَظُوا بفعل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُدَاهُ فَمَا أقرب واقعه بواقعنا ، وقَدْ اضْطُهدَ وأَصْحَابُهُ وهو بِمَكَّة، ولَمْ يُؤذن له بجهاد الشَّوْكَة، وقد هَجِّرَ أصْحَابُهُ إِلَى المَدِينَةِ، وجميعهم قــد

أُخْرِجَ عَن مَاله وأهله، ولَمْ يُؤذن له بجهاد الشوكة، حتَّى قَامَتْ أَسْبَابَهُ منتظمة في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ من الهِجْرَةِ، وقَد أُذِنَ لَهُ بِه ولَم يُفْرَض بَعدُ، فضلاً أَنَّهُ قد أُذِنَ لَهُ بِهِ فِي حَقٌّ مَنْ نَاوَءَهُ وَعَادَاهُ، وَلَمَّا قَويَتْ الشَّوكة، وبَات قَادِراً عَلَى نَشْرِ الدَّعْوةِ، وَرَدُّ العدوان، أُمِرَ بالجِهَادِ، فَلَو أَنَّ إخوَتَنَا أَبْصَرُوا هذا وأَدْرَكُوهُ، لَمَا تَعَجِلُوا الْأَمْرَ، وَلَنَكُوا بِأَنفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِم عَن حُصُولِ هَذِهِ الخَسَائِرِ الحِسَامِ مِنْ أَعْدَادِ هَائِلَة مِنَ الشُّهَدَاء، وَمِنْ أَعداد أَكْثَرَ بِكَثِيْرِ كَثِير مِنَ الإصابَاتِ الغائرة والإعاقَاتِ الدَّائِمَةِ، وَأَمَّا عَنْ هَدْمِ البيوت وتَشْرِيْد أَهْلَهَا مِنْ مَكَانَ إلَى مَكَان، وتدمير البنى التحتية، والمنشآت الاقتصادية، ونهب الثروات، فَحَدَّتْ عنها شعراً ونثراً وَلَاحَرَجَ، وَمَا زِلْنَا نَرْجِعُ القَهْقَرَى.

وحَاشَا وَكُلًّا أَنْ تَكُونَ هَذه ثَمَرَةَ جهاد قائم عَلَى دقة الفَهْم، وحُسْنِ التَّبَصر، واسْتَفْرَاغِ الوسع في جَمْعِ الأسباب، لهذا كُلَّهُ أَحْبَبْتُ أن أُجَلِّيَ هَذِهِ الحَقِيقَةً وَأَنَّ الجِهَادَ الأَكمَلَ مَا لَأزَمَ مَقْصُودَهُ وَدَارَ مَعَهُ فِي تَعْجِيلِ أَوْ تَأْجِيْل، وفِي عُمُومٍ أو خصوص وفِي غير ذلك، عَنْهَا تَجِدُ قلوبا صافية، وعقولا واعية تساعد في التصويب والترشيد،

وَإِلَيْكَ بعض الأدلة التي تُقَرِّرُ هَذَا المَقْصِدَ:

الدليل الأول: قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْهَا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُولّهمْ يَوْمَئِذ دَبْرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لقتال أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ ـغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (۸۲) ،

 مَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِصَدِّهِ، وَهَذَا يَعْنِي: أَن الثَّبَاتَ فِي حَقَّ المُؤمِنِ عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوِّهِ وَاجِبٌ مَا دَامَ يَجِدُ الجِهَادَ مُتَّجِهَا نَحْوَ تَحقيق مقصده، وأَنَّ التَّوَلِّي وَالفِرارَ وَالحَالَةُ هَذِهِ إِثْمٌ وَحَوْبٌ يُعَرِّضُ المؤمن إلى غضب الله وَعَذَاب النار ، قال الله تعالى فقدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله ومَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبَئْسَ الْمَصِيرُ (۸۳) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبقات، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَمَا هُنَّ؟، قَالَ : (الشرك بالله .... وذكر الحديث حتى قال: (وَالتَّولِّي يَوْمَ الرَّحْفِ وَقَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ) (٤)، ولا يَزَالُ حُكْمُ الوُجُوبِ مَاضِيَا عَلَى حَالِهِ حَتَّى يَرَى المجاهِدُونَ فَعُودَ الْجِهَادِ عَنْ تَحقِيقِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ، سَقَطَ الوُجُوبُ بِرَحْصَةِ التَّحَرَّفَ أَو التَّحَيرُ جَرَّيَا مَعْ مَظَنَّة مَقْصَد الجهاد وَحَكَمَة مَشْرُوعِيَّتِه، وَهُوَ حفظ الدّين بَريَّنا من فتنة الكُفْرِ وَالشِّرْكَ، وَرَدُّ الْكَافِرِ والفاسد عَنْ المسلمين نفسا وعرضا ومالا .

والحاصل : أَنَّ الآيَةَ تُرسّخ مَفْهُومَ التِّلَارُم بَيْنَ الجِهَادِ وَمَقْصده، وَأَنَّ كَمَالَ الْجِهَادِ فِي دَوَرَائِهِ مَعْ مَقصدهِ وُجُودَاً وَعَدَمَا ، وَإِلَّا فَمَا قِيْمَةُ الرُّحْصَةِ إِذَنْ.

الدليل الثاني: قال الله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِنكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُن مِنكُمْ ألْفُ يَعْلَبُوا أَلْفَيْن بإذن الله واللهُ مَعَ الصابرين (۸۰).

أفادت الآية بمنطوقها وجوب ثبات المؤمنين إذا كانوا نصف عدوهم أو أكثر من ذلك، فيكون الواحد منهم في مقابل رجلين من الكفار، وحكمة ذلك فيما يُظَنُّ أن المسلمين إذا كانوا مثل عدوهم إلى النصف يُرجى لهم الغلبة والظفر . وَأَفَادَتْ بمفهومها المخالف زَوَالَ حُكْمِ الوجوبِ إِذَا كَانَ عَدُوُّهُمْ يَزِيْدُ على الضعف؛ فَعَن ابْنِ عَبَّاس قال: "إن فَرَّ رَجُلٌ من رجلين فقد فَرَّ، وَإِن فَرَّ من ثلاثة فلم يفر(٨٦)

وفي رواية عن عمرو بن دينار، أنه بلغه أن ابن عباس قال: "لما نزلت هذه الآية: إِنْ يَكُنْ مِنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فَكتب عليهم أن لا يفر العشرون من المئتين، فأنزل الله عز وجل: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ۱۲۳

ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنكُمْ مائة صَابِرَة يَعْلَبُوا مِائَتَيْن فخفف عنهم وكتب عليهم أن لا يفر مئة من مائتين (۸۷).

وَعَنْ ابْنِ شِبْرِمَةَ قَالَ: "وَكَذَا النَّهْيُّ عَنْ المُنكَرِ ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْ اثْنَيْنِ إِذَا كَانَا عَلَى مُنْكَرِ، وَلَهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْ أَكْثَرَ مِنْهُمَا (۸۸) . وَحَكمَةُ خَلَكَ : أَنَّ كَثْرَةَ العَدَدَ مَظنة القوة وَحُصُول الغلبة، فَجَارَ عِنْدَهَا -الفرارُ مُطلقا.

وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ نذكر بفقه المَذَاهِب فِي المَسْأَلَة؛ فَإِنَّ مَنْهُمْ مَنْ مَنَعَ الفِرَارَ سَوَاءِ زَادَ عَدَدَ الكَفَارِ عَلَى الضَّعْفِ أَوْ لَا إِلَا بِقَصدِ التَحَرفِ أَوْ التَحَيَّرُ إلى فئة وتستمر رخصة الفرار ما لم يَبْلُغَ عَدَدَهُم أثْنَى عَشَرَ أَلْفاً وهو مَذْهَبُ أَبي حَنَيْفَةَ (٤٩). (۸۹) وَمِنْهُم مَنْ أَجَارَ الفِرَار - إِذَا كَانَ العَدُوُّ فَوْقَ الضعف - مطلقاً ولَو لأجل

السَّلَامَة وَالْعَافِيَة، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالك وَالشَّافعي وأحمد، غير أن مالكاً غَيَّا الجواز

بغاية هي عَدَدُ أن لا يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفاً، فإذا بلغ حَرَّمَ الفِرَار مطلقاً (٩٠). وعمدة أبي حنيفة قوله تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلَمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةً صَابِرَةٌ يَعْلَبُوا مِائَتَيْن وَإِنْ يَكُنْ مِنكُمْ أَلْفُ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (١١) مستدلاً بمنطوقها الذي يفيد وجوبَ الثباتِ عند الضّعفِ أو أقل بالأولَى وَلَا يَسْقُطُ الوجوبُ إلا لباعث التحرف فقط، فإذا كانوا أكثر من الضعف جَازَ الفِرَار للتحرف أو التحيز عملا بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْقاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دَبِّرَهُ إِلَّا مَتَحَرِّقاً لِقِتَالِ أَوْ مُتَحَيَّراً إِلَى فِئَة فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (۹۲) .

قال الجصاص: "فَإِنْ زَادَ عَدَدُ الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحير إلى فئة من المسلمين فيها نصرةً، فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرةً معهم؛ فهو مِنْ أهلِ الوَعِيْدِ المذكور في قوله تعالى: ﴿فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير، وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عَدَد جيش المسلمين اثني عَشَرَ ألفاً لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مِثْلَيْهِم إلا متحرفين لقتال وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدة لعدوهم من نحو خروج من مضيق إلى فسحة أو من سعة إلى مضيق (۹۳).

فأنت ترى أن أبا حنيفة لم يلتفت إلى مفهوم العدد وذلك لأنه ينكر حجية ١٢٤مفهوم المخالفة في ألفاظ الشارع، فحمله ذلك على ما قال.

واعتمد الجمهور على منطوق الآية ومفهومها ، فعملوا بالمنطوق في وجوب الثَّبَاتِ أمامَ الضَّعْفِ وما دونه ، وأَجَازُوا الفرار مطلقاً فيما زَادَ عليه عَمَلاً بمفهوم العدد فإنه حجةٌ عِنْدَهُم

قلت: المختار عندي ما ذَهَبَ إليه الجمهور من غير استثناء الإمام مالك قوله: (إلا أن يبلغ جيش المسلمين اثني عشر ألفا)، لأمرين:

أحدهما : أثر ابن عباس : من فَرَّ من اثنين فقد فر ، ومَنْ فَرَّ من ثلاثة فلـ يفر يعني فراراً محرماً، وهو أثر صحيح لا يُعدَلُ بغيره من أقوال الأئمة سيَّما أنه لم يظهر له مخالف من الصحابة، فقويت به الحجة.

الثاني : أَنَّ الحَدِيْثَ الذِي تَمَسَّكَ به الإمامُ مالكٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاس عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ( خَيْرُ الصَّحَابَة أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُ مَائَة وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلَنْ يُعْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا من قلة (١٥). حَدِيْثٌ ضَعِيفٌ، صَحْحَهُ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ ثُمَّ تُرَاجَعَ عَنْهُ.

والحاصل : أَنَّ الآيَةَ أَفَادَتْ وُجُوبَ الثَّبَاتِ أَمَامَ المِثْلِ إِلَى الضُّعْفِ لَقِيَام المَظَنَّة في الغَلَبَة والنِّكَايَة، وأذنت بالفرار مُطلَقَاً إذَا زَادَ العَدَدُ عَلَى الضَّعْفِ لَزَوَال المظنة أَوْ صَالَتِهَا، وَلَكَ أن تقول: إِنَّ حُكْمَ الثَّبَاتِ وَعَدَمِهِ يَدُورُ مَعْ مَظنة الظف الظفر وُجُودَةً وَعَدَمَا قُوَّةً وَضَعْفًا. قال أبو الخطاب الكلوذاني: "وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنَصَرِفَ عَنْ كَافِرِيْنِ، وَلَا للمئة أَنْ يَنْصَرِفُوا عَن المنتَين إِلَّا أَنْ يَنْحَرِفُوا عَنْ صَيْق إِلَى سَعَةِ، أَوْ عَنْ عَطَشِ إِلَى مَاءٍ، أَوْ عَنْ اسْتِقْبَالِ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ إِلَى اسْتِدْبَارِ ذَلِكَ، أَوْ يَتَحَيَّرُوا إِلَى فِئَةٍ مِن المسلمينَ لِيَلْتَقُوا مَعَهُمْ، فَإِنْ كَانَ المَشْرِكُونَ أكْبَرَ مِنْ ضعفي المسلِمِينَ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ المُسْلِمِينَ الظُّفَرَ، فَالْأُولَى أَنْ يَثْبُتُوا، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنَّهِمْ الهَلَاكَ فَالأُولَى أَنْ يَنْصَرِفُوا، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنّهمْ الأَسْرُ مَتَى انْهَرَمُوا فَالأُولَى أَنْ يَثْبُتُوا " (١٦) .

الدليل الثالث: تابع لما قبله هل اعتبار الضعف في الجهادِ راجع إلى العدد أم إلى الجلد والقُوَّة ؟

اختلف العلماء في هذه المسألة إلى فريقين:

الأول: أفَادَ أَنَّ العبرة بالعدد فيلزم المسلمين الثبات لمثلى عددهم من الكفار، وإن ص 125، كانوا أقوى في السلاح والشدَّة والجلد وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك في رواية له وهو وجة عند الشافعية (۹۷)

وعمدتهم في ذلك: نَص الآية إذ ذكرت العدد (الضعف) صراحةً، قال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفَا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةً صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مائَتَيْن وَإِنْ يَكُن مِنْكُمْ أَلْفُ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٨)، وهي وإن كانت خبرية لفظاً فإنها إنشائية معنى.

الفريق الثاني : أَفَادَ أَنَّ العبْرَةَ بالقوة لا بالعدد فَإن كان المشركون أَشَدَّ سَلَاحَاً وَأَكثَر جَلَدَاً وقَوَّة، والمسلمون في ضعف من أبدائهم وسلاحهم بالأمر البين المجاوز لحدّ الإثنين في القوة، فخافوا من غلبة عَدُوِّهِم لم يجب عليهم الثبات، وهم في سعة من التولي والفرار، وإن كان المشركون أقل من مثليهم عددا، وإليه ذهب مالك فـ في رواية عبد الملك عنه، وهو قول ابن الماجشون، ووجه آخر للشافعية، وهو ما يرشد إليه مذهب الحنابلة (۹۹).

وَيُستدل لهم : أن الله تعالى أناط حكم الثبات بالعدد؛ فإن كان المسلمون نصْفَ عَدُوِّهم أو أكثر من ذلك وَجَبَ الثباتُ إلا أن يكونَ عَدُوَّهُم أهلَ قُوَّة ومنعة واشتدَّ بَأْسُهُم على أهلِ الإسلام فيجوزُ الفِرَار عندئذ بقصد التحرُّفِ أَوْ التحيز ما لم يغلب عليهم الهلكة فإذا كان ذلك استحب لهم الفرار، وإن كان المسلمون أقل من النصف، جاز الفرار مطلقاً ولو بقصد السلامة؛ وذلك أن كثرة العدد مظنة القوة غالباً.

فإذا عرفت أن العدد لم يكن سبباً ذاتياً في الحكم، بل ذُكِرَ لكُونِهِ مَّظَنَّةَ القوة، وأَنَّهُ كُلَّمَا كَثُرَ زادت مظنته، استقام أن تقول: إذا تَمَيَّزَ العَدُوَّ عَدَّة، وتفوق عتاداً وامتلك سلاحاً مُدَمِّراً يُفَوِّتُ على المسلمين مَقْصِدَ جِهَادِهِم جَازَ الفِرَارُ مُطْلَقاً بالأولى.

وأكثر من هذا: أنهم إذا أيقنوا أنه لا طاقة لهم بعدوهم وجبَ الفرار مطلقاً. والحاصل : أنَّ القُوَّةَ هي المناط الأصلي، وذكرُ العَدَدِ فِي الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ المَظَنَّة، فضلاً عَنْ أَنَّهُ يُرَاعَى عِنْدَ تَقَارَبِ الأَوْصَافِ، وَهَذَا مَا يُفْهَمُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ العلم وإليكَ بَعْضَ مَا قَالُوا:

قال السرخسي من الحنفية : " ثُمَّ خَفَّفَ الأمرَ، فَقَالَ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، ص 126، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةً صَابِرَةً يَعْلَبُوا مِائَتَيْن (١٠٠) ، و هَذَا إِذا كَانَ بِهِمْ قَوَّةَ القَتَالِ بِأَنْ كَانَتْ مَعَهُمُ الأَسْلَحَة، فَأَمَّا مَنْ لَا سَلَاحَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَن يفر مِمَّنْ مَعَهُ السَّلَاحُ، وكذلك لا بأس بأنْ يَفِرَّ مِمَّنْ يَرْمِيَّ إذا لم يكن معه آلة الرمى، ألا ترى أَنَّ له أَن يَفرَّ من باب الحصن وَمِنَ الموضع الذي يُرْمَى فيه بالمنجنيق لعجزه عن المقام في ذلك الموضع ؟ وعلى هذا لا بأس بأن يَفرَّ الواحد من الثلاثة، إلا أن يكون المسلمون اثني عشر ألفاً كلمتهم واحدة، فحينئذ لا يجوز لهم أن يفروا من العدو وإن كثروا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لَنْ يُعْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَا عَنْ قِلَّةٍ، وَمَنْ كَانَ غَالِبَاً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفِرَّ) (١٠١) .

وقد ذكرنا آنفاً ضَعْفَ الحَدِيثِ، فَضلاً عن أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي ذَكَرَ كَلِمَتُهُم وَاحِدَةً) نَادِرُ الوُجُودِ فِي وَاقِعِنَا المُعَاشِ اليوم !!!.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : يَجِبُ عَلَى الإِمَامِ أن يبعثَ سَرِيَّةً إِلَى دَارِ الحَرْبِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ... وهذا إذا غلب على ظنه أنه يكافئهم، وإلا فَلَا يُبَاحُ قِتَالُهُمْ "

وقال القرافي: واختلف في قَوْلِهِ تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلمَ أَنَّ فِيكُمْ ضعفاً وقيل التخفيفُ في العدد، فلا يَفِرُّ العدد من مِثْلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ سِلَاحَاً وَجَلَدَا إِلَّا أَن يَكُونَ بِأَرْض الحَرْب بموضع مَدَدهمْ فَلَهُ التَّولِيَةُ سَعَةً (١٠٣).

وقال الدسوقي: "فَإِذَا بَلَغَ المُسْلِمُونَ نِصْفَ العَدُوِّ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ الْفِرَارُ مَا لَمْ يَكُنْ مَدَدُ الْكَفَّارِ حَاصِلا ولا مَدَدَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ مَدَدْهُمْ مُتَّصِلًا وَلَا مَدَد لِلْمُسْلِمِينَ... جَازَ الفِرَارُ مُطلقا،  َولَوْ بَلَغوا اثني عَشَرَ أَلْفا (١٠٤ ) .

وقال عليش: "وَحَرُمَ فَرَارٌ مِنَ العَدُوِّ إن بلغ المسلمون الذين معهم سلاح (النصف من عند الكفار كمائة من مائتين ولم يبلغ المسلمون اثني عشر ألفاً، فإن بلغوا حَرَّمَ الفرار ولو كثر الكفار جداً ما لم تختلف كلمتهم (١٠٥).

أقول: ما أكثر الخلاف بينهم في أيامنا هذه.

وقال الرافعي في الشرح الكبير: إِنْ عَجَزَ المُسلِمُ عن القتالِ لِمَرَضِ، أو لم يَبْقَ معه سلاح، فَلَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ بِكُلِّ حَالَ، وَيُسْتَحَبُّ أَن يُولّى متحرفَاً أو متحيراً (١٠٦)، وقال: "وَلَوْ مَاتَ فَرَسَهُ وهو لا يقدر عَلَى القِتالِ رَاجِلا فَلَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ أيضا (١٠٧) ، وقال أيضاً قال الإمام أي الشافعي - إن كان في الثبات الهلاك ص 127، المحضُ مِنْ غَيْر نِكَايَة في الكفارِ لَزِمَ الفِرَارُ ، وإن كَانَ فِي الثَّبَاتِ نِكَايَةٌ فِيهِم، نكاية فيهم، ففي جواز المصابرة الوجهان: أصح الوجهين أنه لا يجب الثبات بل يستحب وقال الشيرازي: "وَإِنْ زَادَ عَدَدُ الكفَّارِ عَلَى مِثْلَي عَدَدِ المسلمينَ، فَلَهُمْ أَن يُوَلُّوا؛ لأنه لَمَا أَوْجَبَ الله على المائة مصابرة المائتين، دل على أنه لا عليهم مصابرة ما زادَ على المائتين، وروى عطاء عن ابن عباس : (مَنْ فَرَّ من اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَة فَلَمْ يَفر)، وإنْ غَلَبَ عَلَى ظَنْهِمْ أَنَّهُمْ يُهْلَكُونَ، فَفِيهِ وَجْهَان

أحدهما: أنه يلزمهم أن يَنْصَرِفُوا لقوله تعالى: ﴿ولا تلقوا بأَيْدِيكُمْ إلى التهلكة والثاني: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرَفُوا، وَلَا يَلْزَمُهُمْ، لأَنَّهُم إِنْ قُتَلُوا فَارُوا بِالشهادة (١١٠). وقال النووي: "ولو قَصَدَ الكُفَّار بلداً، فَتَحَصَّنَ أهْلُهُ إِلى أَن يَجِدُوا قُوَّةً وَمَدَدَاً لم يأثموا، إنما الإثم على مَنْ وَلى بعد اللقاء (۱۱۱)، وقال الخطيب الشربيني: "إذا زَادَتْ الْكُفَّارُ عَلَى الضَّعْفِ وَرْجِي الطَّفَرَ بِأَنْ ظَنَنَّاهُ إِن ثَبَتْنَا اسْتُحِبَّ لَنَا الثَّبَاتُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا الْهَلَاكُ بِلَا نَكَايَة وَجَبَ عَلَيْنَا الْفِرَارُ ، لقَولَه تَعَالَى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ أَوْ بنكَايَة فِيهِمْ أُسْتُحِبَّ لَنَا الْفَرَار (١١٣).

وقال ابن جُزَيِّ: "وَإِنْ عَلِمَ المُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ ، مقتولُونَ، فالانصرافُ أُولَى، وَإِن عَلِمُوا مَعْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لا تَأْثِيرَ لَهُم فِي نِكَايَةِ العَدُوِّ وجب الفرار، وقال أبو المعالي: لَا خِلَافَ في ذلك (۱۱۳).

وقال صاحب المعتمد في فقه الإمام أحمد: "فإن زاد الكفار علـ المسلمين، جاز للمسلمين الفرار المفهوم قوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلَمَ أَنَّ ؛ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنكُمْ مِائَةٌ صَابِرَة يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنكُمْ يعْلَبُوا الفين، وقال ابن عباس : مَنْ  َفرَّ مِنَ اثنين فقدْ فرَّ وَمَن فرَّ مِنْ ثلاثة فلمْ يَفِرَّ يعني فراراً محرماً (١١٤).

وقال الشوكاني في السيل الجرار: إذا علموا -أي المسلمون - بالقرائن القوية أنَّ الكفار غالبون لهم ، مستظهرون عليهم، فعليهم أن يَتَنَكَّبُوا عن قِتَالَهُم، وَيَسْتَكْثِرُوا مِنَ المجاهدين ويَسْتَصْرِحُوا أهْلَ الإسلام، وقد استدل على ذلك بقوله : ﴿وَلَا تَلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ وَهِيَ تَقتضي ذَلِكَ بِعُمُومٍ لَفْظِهَا، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصَّاً، فَإِنَّ سَبَبَ نُزُولهَا أَنَّ الأَنصَارَ لَمَا قَامُوا عَلَى زَرَائِعهم، وَإصْلاح أَمْوَالِهِمْ، (ص 128)، وَتَرَكُوا الجِهَادَ، أَنْزَلَ الله في شأنهم هذه الآية، كمـا أخرجــه أبــو داود والنسائي والترمذي، وصححه والحاكم أيضاً، وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبَب، ومعلومٌ أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ وهو يَرَى أَنَّهُ مَقْتُول أو مَأْسُورٌ أو مغلوب فقد ألقى بيده إلى التهلكة" (١١٥).

فأنت ترى أن جميع فتواهم مبنية على مراعاة القوة في الحكم.

الدليل الرابع: قال العِزَّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: "كُل تَصَرُّف تَقَاعَدَ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُوْدِهِ باطل (١١٦)

وهي : قَاعِدَةً فِقْهِيَّةٌ تَنْطَبِقُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ مِثْلُ:

أ. مُطَالَبَةُ المَديْن وَعَقَوْبَتُهُ : أَذنَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم للدائن أن يطلبَ مَدَيْنَهُ إِذَا أَيْسَرَ، فَإِنْ أَبَى حَلَّ لَه انْتِقَاصُهُ بِمَا فِيْهِ، وَحَلَّ لِلإِمَامِ عُقُوبَتُهُ، لِقَوْلِهِ : لَيَّ الْوَاجِدِ يُحِلَّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَه) (۱۱۷)، زَجْرَاً لَهُ وَحَمْلَاً عَلَى الوَفَاءِ، وَدَل الحَدِيْث بمفهومه المخالف، أنه إذا انتفى الغنّى وَكَانَ الفَقْرُ وَالعَجز انتفى حلَّ النقيصة والعُقُوبَة، بل وامتنعت المطالبة؛ لِعَدَمِ القَدْرَةِ عَلَى الوَفَاءِ، قال تعالى : ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظَرَةً إِلَى مَيْسَرَة (۱۱۸).

ويُقَال عندئذ : لَمَّا قَعَدَتْ المطالبة والعقوبةُ عَنْ تَحقيق مَقْصُودِهَا، مُنعَ مِنْهَا.

ب. بَيْعُ الْمَعْدُوْمِ إِنَّ العَرَضَ مِنْ عَقدِ البَيْعِ تحقيق مصلحة العَاقِدَيْنِ، فِي الثمن والسلعة، فَلَمَّا كَانَ المَبيعُ مَعْدُوماً ، قَعَدَ العَقْدُ عَنْ تَحقيق غَرَضه فَكَانَ مَمْنُوعَاً، فَعَنْ حَكِيْمٍ بْنِ حِرَامِ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِندَك ) (١١٩). وعن ابن عمر قال : قال : (نَهَى أَنْ تُبَاعَ السَّلَعَ حَيْثُ تُبْتَاعَ حَتَّى يَحُوزَهَا التجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ) وعن ابن عباس قال : قال : (مَنْ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِعَهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ) (۱۲۱).

ج. صلاة الجنازة على الكافر : شرعت صلاة الجنازة على المؤمن تعبداً الله تعالى، ومن بين مقاصدها أنها شفاعة للميت، ولما كان الكافر ممنوع الرحمة محروم الشفاعة لم تجز الصلاة عليه، لقعودها عن تحقيق مقصودها. د. الاستغفار للميت الكافر : إذا مات المرء كافراً لزمه العذاب أبداً، ومنع من رحمة الله ومغفرته، فلا تنفعه صلاة ولا استغفار قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (۱۲۲) ، وذلك إذا مات على الشرك ولم يتب ص 129، منه، وقال تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (١٢٢).

وجاء في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسْتَأْنَنتُ رَبِّي فِي أَنْ له أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَرُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي) (١٢٤).

هـ. نكَاحُ الْمُحَلِّل (١٢٥): شرع الله تعالى النكاح سبباً في حلية الاستمتاع بالبضع، وأن يكون كل من الزوجين سكناً ولباساً للآخر، قال الله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (١٢٦) ، وقال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ (۱۲۷)، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ من أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا (١٢٨). فلما قعد زواج المحلل عن تحقيق هذه المقاصد كان ممنوعاً، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ) (١٢٩). و. مُعَاهَدَةُ (۱۳۰) الْكَافِر حَالَ غَلَبَة الْمُؤْمِنِينَ: أذن الله تعالى للمؤمنين بمعاهدة عدوهم إذا اقتضت الحاجة ذلك، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (۱۳۱) ، فإذا انعدمت الحاجة وزالت المصلحة، وكان المؤمنون على قوة ومنعة لم تجز المعاهدة، قال تعالى: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتركُمْ أَعْمَالَكُمْ (۱۳۲) (۱۳۳).

وَالجِهَادُ مِنْ أَفْرَاد هَذه القَاعِدَة، إِذَا عَرِي عَنْ تَحقيق المَصْلَحَةِ من حفظ الدِّيْنِ أَوْ النَّفْسِ أَوْ العِرْضِ أَوْ المَالِ يُمْسَكَ عَنْهُ رَيْتَمَا يَقُومُ الدَّاعِي الذِي يُظَنُّ مَعَهُ تلْكَ المَصْلَحَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ أَصْحَابَهُ عَلَى التَّوَلَي مُرَاعَاةَ لِتَحقِيقِ مقصد الجِهَادِ، فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قال: كنت في جيش، فلقينــــا العدو، فحاصَ النَّاسُ حَيْصَةً، فَكنتُ فِيْمَنْ انْحَازَ فَقُلْنَا: لَا نَدْخُلُ المدينة، وننظُرُ . وجوه الناس، وقد بُوْنَا بِغَضَب من الله، فأقمنا بجنباتها، فقلنا : لو دَخَلْنَاهَا فتثبت منها وفي رواية : فامترنا منها ، وفي سنن أبي داود: فنثبت فيها، نذهب فلا يرانا أحد، فدخلناها ليلاً، فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم فَإِنْ كَانَتْ لَنَا توبةً تَبْنَا قَال: فقعدنا له في الطريق، فَخَرَجَ لِصَّلَاةِ الغَدَاةِ، فقلنا: يا رسولَ الله نَحْنُ الفَرَّارون، قال: (بَلْ أَنتُمُ العَكَارُون) قال : قلنا: يا رسول الله نحن الفرارون، قال: (بَلْ العكارُونَ)، قال : قلنا: يا رسول الله نحن الفرارون، قال: بَل أَنتُمُ العَكَارُونَ) ثلاث مرات، فأخبرناه ما أردنا أن نصنع ، قال : فلا تفعلوا، أنا فئتكم) وعند أبي داود قال: ص 130، فدنونا، فقبلنا يده فقال: (أنا) فئة المسلمين) (١٣٤)، والعكارون الراجعون.

فأنت ترى أن الصحابة لما رأوا أنه لا قبل لهم بعدوهم، وأنهم لا يستطيعون أن يُحَقِّقُوا مَقْصِدَ الجهاد في خُرُوجِهِمْ ذلك من كَسر شوكة الكفر وإسقاط نظامه رَجَعُوا وقد وَجَدُوا في أنفسهم أنهم عَصَوْا رَبَّهُم، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأقرهم على الفرار وذلك أنه فِرَار يعقبه عَكْرٌ وَكَرَّ وَنزَال يكون المؤمن فيها أكثرَ أُهْبَةً وأَجْمَعَ سَبَبَاً وَأَقْدَرَ على الإغاظة والنيل.

وعن ابن سيرين قال : لما بَلَغَ عُمَرَ قَتْلُ أبي عُبَيْدِ الثقفي، قَالَ: "إِنْ كُنْتُ لَهُ فئة لو انحاز إلى (١٣٥). وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدِ بْنَ مَسْعُودٍ اسْتَقْتَلَ يَوْمَ الْجَيْشِ حَتَّى قُتِلَ وَلَمْ يَنْهَزِمْ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبَيْدِ لَوْ انْحَارَ إِلَيَّ لَكُنتَ لَهُ فِئَةً فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِي عُبَيْدِ، قَالَ: أَنَا فَئَةً لَكُمْ، وَلَمْ يُعَذِّفَهُمْ (١٣٦).

وعن إبراهيم قال : بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ قوماً صبروا بآذربيجان، حتى قُتِلُوا، فقال عمر: "لو انحازوا إلى لكنت لهم فئة (١٣٧).

وفي هذا الأثر مَوْعِظَةً أن عمر تَوَجَّعَ على أبي عبيد لما تَجَلَّدَ وَتَصَبَّرَ في مواجهة جيش عظيم - وهو يتمتع برخصة الشارع بالرَّجُوعِ مُتَحَرِّقَا أَوْ مُتَحَيّرَاً إلى فئة، فقال فيه رَحِمَ اللهُ أَبَا عُبَيْدِ لَوْ انْحَارَ إِلَيَّ لَكنت لَهُ فِئَةٌ (۱۳۸).

وهَذِهِ هِيَ الصُّوْرَةُ المُشْرِقَةُ، والمستَوَى العَالِي فِي الفَهْمِ وَالْإِنْقَانِ: مُجَاهِدٌ جَلْدٌ صَبُورٌ، وَإِمَامٌ عَالِمٌ خَبِيرٌ رَحِيمٌ يَجْمَعُ بَيْنَ الحرص عَلَى سَلَامَة الجُنْدِ أَمَامَ سَعَة التشريع ونِكَايَةِ العَدُوِّ في مُنَازِلَاتِ يَكُونُ المُسلِمُونَ أكثر إحكامًا وَأَعْظَمَ جَمْعاً وَأَنكَى تحرقا.

وَلَا أَنسَى الاسْتِدْلَالَ بِتَرْكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جِهَادَ الشَّوْكَةِ فِي حَيَاةِ مَكَّةَ، وَفِي أَوَّلِ مُقَامِه فِي المَدِينَة وَهُوَ العَالِمُ بِفَضلِ الجِهَادِ وَعَظِيْمٍ أَجْرِهِ، وَهُوَ القَوِيُّ بِاللهِ، وَهُوَ المؤيَّدُ بِجِبْرِيل وميكائيل شديدي القوى وبالملائكة المُسوِّمِيْنَ المعلمِيْنَ الَّذِيْنَ يَضْرِبُونَ الأَيْدِي وَالأَعْنَاقِ، وَلَا يحتمل تَرَكَهُ إِلَّا تَأسيس الأحكام للأَنَامِ أَنَّ الجِهَادَ مُنَاطٌ حُكْمُهُ بِأَسْبَابِهِ وَمَقَاصِدهِ فَمَتَى تَحقَّقَت وَجَبَ النَّفِيرُ ولَحِقَ الْإِثْمُ الْقَاعِدِينَ؛ وَمَتَىٰ غَابَ مَقْصدُهُ فَالرِّيَاثَةُ والمهلة ريثما تقوم مظنته تأسياً بفعله بأبي هو وأمى ، وَذَلكَ أَنَّ ص 131، اللَّهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ الْأُمَّةَ عَلَى قَلْب رَجُلٍ واحد هدَايَةً، وَلَوْ شَاءَ لَانتَصَرَ منَ الكَافِرِ مِنْ غَيْرِ إِعَانَةِ أحَدٍ، لَكِنَّ سُنْتَهُ قَائِمَةً عَلَى ابْتِنَاءِ المُؤمِنِ بِالْكَافِرِ وَدَفْعِ الثَّانِي بِالأَوَّلِ وَالْعَكس، قال تعالى: ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ وقال تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفَعُ الله الناسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَت صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِعزيز (١٤٠).

وقال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ الله عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حكيم (١٤١)

ومنْ سُنَّته سُبْحَانَهُ أَنْ يَحْيَى دِيْنُهُ فِي الْأَرْضِ لَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْيَى إِلَّا بِأُمَّةِ حَيَّة قوية لا بأمة مريضة ميتة (اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكَ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ) (١٤٢).

وَمَعلُومٌ عِندَ عَلَمَائِنَا الأُصُولِيّيْن أَنَّ الوَسَائِلَ تَأْخُذُ حُكْمَ المَقَاصِدَ، وَحِفْظُ الدِّيْنِ مَقْصِدٌ وَوَسَيْلَتُهُ أُمَّةً قَوِيَّةً، وَلَا يُدْرَكَ حِفْظُ الدِّيْنِ إِلَّا أَنْ تُدْرِكَ قُوَّةُ الْأُمَّةِ، وَمَا لَا يَتِمَّ الواجب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَلْتَحْرص الأمَّةُ عَلَى لَمْلَمَة الشَّعَتْ، وَنَبْد الخَلَافِ، وَرَصَ الصَّفُ، وَوَحِدَةِ الكَلِمَةِ، وَمَنْعِ النَّجْوَى إِلَّا فِي الخَيْرِ ، وَتَحقِيقِ الْفَهْمِ، وَتَعْمِيقِ الرُّؤْيَةِ وَاسْتَفْرَاعَ الوَسَع فِي تَقْرِيرِ أَسْبَابِ القُوَّةِ وَالأسْتعَانَة مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ بِاللَّهِ القَوِيُّ ناصر المؤمنينَ وَمُعزّ الموحدين، فَلْيَتَأمل هَذَا فَإنّهُ دَقيق.

الدليل الخامس: اعتبار المآل ؛ قال الإمام الشاطبي: "النَّظَرُ فِي المَالَاتِ مَقْصُودٌ مُعْتَبَرْ فِي الشَّرْع (١٤٣).

ومعنى اعتبار المالِ : تأثير نتيجة الفعلِ مَقْطُوعَةً أَوْ مَظْلُونَةً فِي تَشْرِيْع حُكْمِه سَلْبَاً أَوْ إِيْجَابَاً، ودليلُ اعتباره ثَابِت باستقراء أدلة الكِتَابِ وَالسُّنَّةَ وَمَا تُرْشَدَ

إِلَيْهِ مِنْ أَحكامٍ، وَإِلَيْكَ بَعْضَ مَا يُثْبِتُ ذَلِكَ:

أولا : من الكتاب:

أ. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (١٤٤)

ص 132، تَدُلُّ الآيَةُ بِظَاهِرِهَا عَلَى حَظٍّر البَيْعِ وَقَت الشَّروع بِصَلَاةِ الجُمُعَة؛ لِكَوْنِهِ يُفْضِي إِلَى تَفْوِيْتِهَا، وَمَعَلُومٌ أَنَّ إِضَاعَتَهَا حَرَامٌ، وَكُلُّ وَسَيْلَةَ تُفْضِي إِلَى الْحَرَامِ تَأْخُذُ حكمه.

ب. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُمْ مُنْتَهُونَ (١٤٥ ) . بَيْنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الخَمْرِ هُوَ مَالُهَا الْفَاسِدُ؛ فَإِنَّهَا تَقُودُ إِلَى العَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ وَتَصُدُّهُمْ عَنْ ذكر الله وإقَامَة الصَّلاة، عَلَى أَنَّ العَمَلَ بِالآيَةِ أَمْرَاً بالمعْرُوفِ وَنَهْيَا عَن المُنكَرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى ضَوْء مِنَ اعْتبَارِ المَآلِ ؛ قال شيخ الإسلام ابْنَ تَيْمِيَّةَ: وَأَمَّا الكُفَّارُ فَزَوَالُ عَقلِ الكَافِرِ بالسكر - خَيْرٌ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، أَمَّا لَهُ: فَلَأَنَّهُ لَا يَصُدُّهُ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَن الصَّلَاةِ، بَلْ يَصُدُّهُ عَنْ الكُفْرِ وَالفَسْقِ. وَأَمَّا للمُسلمينَ : فَلَأنَّ السَّكْرَ يُوقِعُ بَيْنَهُم العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فَيَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا للمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ هَذَا إِبَاحَةَ لِلْخَمْرِ وَالسَّكْرِ، وَلَكِنَّهُ نَفْعٌ لِشَرِّ الشَّرَّيْنِ بِأَدْنَاهُمَا، وَلِهَذَا كُنتُ آمُرُ أَصْحَابَنَا أَنْ لَا يَمْنَعُوا الْخَمْرَ عَنْ أَعْدَاءِ المُسلِمِيْنَ مِنَ التّثارِ والكُرْج. وَنَحْوِهِمْ، وَأَقُولُ: إِذَا شَرِبُوا لَمْ يَصُدُّهُم ذَلكَ عَنْ ذكر الله وَعَن الصَّلَاةِ، بَلْ عَن الكُفْر وَالفَسَاد في الْأَرْضِ. ثُمَّ إِنَّهُ يُوقِعُ بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ، وَذَلكَ مَصْلَحَةٌ لِّلْمُسْلِمَيْنِ فَصَخَوهُمْ شر من سكرِهِمْ، فلا خَيْرَ فِي إِعَانَتِهِمْ عَلَى الصَّحو، بَل قَدْ يُسْتَحَبُّ -أو يَجِبُ - دَفْـ شَرِّ هَوْلَاءِ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ سُكْرٍ وَغَيْرِهِ، فَهَذَا فِي حَقٌّ الكفار ، وَمِنَ الفُسَّاقِ الظُّلَمَة مَنْ إِذَا صَحَا كَانَ فِي صَحوهِ مِنْ تَركِ الوَاجِبَاتِ وَإِعْطَاءِ النَّاسِ حقوقهُمْ، ن فعل الْمُحَرَّمَاتِ وَالاعْتِدَاءِ في النفوس وَالأَمْوَالِ، مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سُكْرهِ، فَإِنَّهُ إِذَا إِذَا كَانَ يَتْرُكُ ذِكْرَ اللهِ وَالصَّلَاةِ فَي حَالِ سُكْرِهِ، وَيَفْعَلُ مَا نَكَرْتُهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ، سُكْرَهُ شَرًّا مِنْ صَحوه، وَإِذَا كَانَ فِي حَالٍ صَحُوهِ يَفْعَلُ حَرُوبَاً وَفَتَنَا، لَمْ شُرْبهِ مَا هُوَ أَكثر من ذلك، ثُمَّ إِذَا كَانَ فِي إِذَا كَانَ فِي سُكَرِهِ يَمْتَنِعُ عَنْ ظَلْمِ الْخَلْقِ وَالأَمْوَالِ وَالحَريم، ويَمْسَحُ ببذل أمْوَال - تُؤخَذُ عَلَى بِبَذْلِ أَمْوَالِ - تُؤخَذُ عَلَى وَجْهِ فِيْهِ نَوْعٌ مِنَ التَحْرِيمِ . يَنتَفِعُ بِهَا النَّاسُ، كَانَ ذلِكَ أقل عَذَابًا مِمَّنْ يَصْحُو فيعتدِي عَلى الناس في النفوس وَالْأَمْوَالِ وَالحَرِيمُ، وَيَمْنَعُ النَّاسَ الحُقُوقِ التِي يَجِبُ أَدَاؤُهَا (١٤٦). ص 133،

ج. وقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُو ا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٤٧). نهى اللهُ تَعَالَى عَنْ التّنارُعَ بَيْنَ المسلمين؛ لِأَنَّهُ يَقُوْدُ إِلَى الفَشَلُ وَذَهَابِ القُوَّة، وَهُمَا مَظَنَّةً إِطْمَاع الكَافِر فِي الاعْتِدَاءِ عَلَى دَارِ الإِسْلَامِ. د. وقال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قَوَّة وَمَنْ ربَاطِ الْخَيْلِ تُرْهَبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سبيل الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ (١٤٨).

أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالإِعْدَادِ وَجَمْعِ أَسْبَابِ القُوَّةِ لِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنْ إِرْهَابِ العَدُوِّ وَمُرَاغَمَته.

هـ. وقال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٤٩). ﴾ شَرَعَ اللهُ القِصَاص لما يَؤُولُ إِلَيْهِ من توفير الحياة الآمنة الهائية المُطْمَئِنَّة. و. وقال تعالى: ﴿وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَته مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أليما (١٥٠ ) . مَنَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ قِتَالِ أهْلِ مَكَّةَ أَنَّ فِيهِمْ مُؤمِنينَ لَمْ يُعْرَفُوا، مَظَنَّةَ أَن يُقْتَلُوا فَيُفْضِي قَتَلُهُمْ إِلَى المَعرَّة وَوَجَعِ الضَّمِيرِ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ تَمَيَّرُوا عَنْ كُفَّارِ مَكَّةَ لَأخَذَ اللَّهُ الكفارَ بِعَذَابٍ أَلِيْمٍ. ز. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنسوا وتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥١).

وقال سبحانه: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسَكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ : وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (١٥٢) أَنْتَ تَرَىٰ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنْ دُخُولِ بُيُوتِ الغَيْرِ حَتَّى نَسْتَأْذِنَ وَيُؤْذَنَ لَنَا مَعْ إِظْهَارِ قَرَائِنِ القَبُولِ وَالسَّعَادَةِ مَنْعاً لِلْمَالِ الفَاسِدُ وَهُوَ النَّظَرُ إِلَى العَوْرَاتِ المَفْضِي إِلَى الْفَوَاحِشِ، وَقَدْ أَذِنَ بِدُخُولِ البُيُوتِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ وَالتِيْ فِيْهَا مَتَاعٌ لَنَا لِزَوَالِ المَآلِ المَحظور، وقِيَامِ المَنافِعِ الْمَجَرَّدَةِ عَنِ الشَّرِّ.

ثانيا: من السنة:

أ. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ : (لَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بالكفر لَنَقَصْتُ الْكَعْبَةَ ولَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ) (١٥٣).

أَمْسَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فِعْلِ مَا يَرَاهُ حَقًّا نَظَرَاً لِلمَآلِ المُتَوَقَّع مِنَ الصَّخَبِ وَالْفَوْضَى وَالفِتْنَةِ التي تَجْتَاحُ النَّاسَ إِذَا حَصَلَ ذَلِكَ.

ب. وعن جابر بن عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) (١٥٤).

لَقَدْ أَكْثَرَ المُنَافِقُونَ مِنْ إِبْدَاءِ النَّبِيِّ، وَقَدْ نَكَرَ القُرْآنُ بَعْضٍ مَا كَانَ مِنْهُم؛ قال تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تنفقوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُول الله حَتَّى يَنْفَضُّوا ولله خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (١٥٥).

وقال تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة لَيُخْرِجَنَّ الْآعَرُ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَللَّه الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٥٦) وقال تعالى: ﴿وَلَئنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةً مِنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (١٥٧) . وقالوا: "سمِّن كَلبَكَ يَأْكلك (١٥٨).

وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُهُم عَلَى الإِسْلَامِ أَمْسَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهِم نَفْعًا لِلْمَالِ الْفَاسِدِ وَهُوَ فِتْنَةً كَثِيْرِ مِنْ دَهْمَاءِ النَّاسِ الذِيْنَ يَجْهَلُونَ حَقِيقَةَ الْمُنَافِقِينَ وَيَحْسَبُونَهُمْ مُؤْمِنِيْنَ، فَتَرْتَابُ قُلُوبُهُم فِي تَأْمِيْنِ الإِسْلَامِ لِأَفْرَادِهِ، فَيَقُولُ قَائِلُهُم مُحَمَّدٌ يَقْتَلُ أَصْحَابَة. ج. عَنْ مُعَادَ قَالَ: كُنتَ رِدْفَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَار يُقَالُ لَهُ عَفَيْرٌ فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ صلى الله عليه وسلم هل تَدْرِي. اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ الله عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا به شَيْئًا وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهَ أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: (لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكُلُوا) (١٥٩).

فلولا المالُ المَنْمُومُ وَهُوَ حُصُولُ الاتِّكَالِ وَالقُعُودِ عَنْ العَمَلِ؛ لَأَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بالبُشْرَى لَهُمْ.

د. إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرَعَ لِأُمَّتِهِ إِيجَابَ إِبْكَارِ الْمُنْكَرِ لِيَحْصَلَ بِإِنْكَارِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا كَانَ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسُوعُ إِنْكَارُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ، وَهَذَا كَالْإِنْكَارِ ص 135، عَلَى الْمُلُوكِ وَالْوَلَاةِ بِالْخَرُوج عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ أَسَاسُ كُل شَرِّ وَفِتْنَةٌ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَقَدْ اسْتَأْذَنَ الصَّحَابَةُ رَسُولَ الله في قتال الْأُمَرَاء الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، وقَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ ؟ فَقَالَ : لا ، مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ ) (١٦٠) . وَقَالَ: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ ) (١٦١) ،وَمَنْ تَأْمَلَ مَا جَرَى عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ رَآهَا مِنْ إِضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُنْكَرٍ؛ فَطَلَبَ إزَالَتَهُ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.... (١٦٢). هـ. عَنْ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزو) (١٦٣).

ومعلوم أن القطع حد من حدود الله تعالى، وَقَدْ نَهَى عَنْ إِقَامَتِهِ فِي الْغَزْو خَشْيَةَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَبْغَضَ إِلَى اللَّهِ مِنْ تَعْطِيلِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ مِنْ لُحُوقِ صَاحِبِهِ بِالْمُشْرِكِينَ حَمِيَّةً وَغَضَبًا، وهذا ما نهج عليه أحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْه وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسائرٍ عَلَمَاءِ الْإِسْلَامِ ، فقدْ أتَى بِسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ بِرَجُلٍ مِنْ الْعَزَاةِ قَدْ سَرَقَ مجَنَّهُ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَا تَقطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ) () لَقَطَعْت يَدَكَ، وعن الأحوص بْن حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى النَّاسِ أَنْ يقطع يَجْلدَنَّ أَمِيرُ جَيْشِ وَلَا سَريَّة وَلَا رَجُلٌ من المُسْلِمِينَ حَدًّا وَهُوَ غَاز حتى يقطع الدَّرْبَ قَافلًا لئلا تَلْحَقَهُ حَميَّة الشيْطَان فيلحق بالكفار".

وعن عَلْقَمَةُ قَالَ: كُنَّا فِي جَيْشِ فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَمَعَنَا حُذَيْفَةَ بْنُ اليَمَانِ، وَعَلَيْنَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، فَشَرِبَ الْخَمْرَ ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَجِدَّهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَتَحَدُّونَ أَمِيرَكُمْ وَقَدْ دَنَوتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فَيَطْمَعُوا فِيكُمْ ؟ (١٦٥)، وقال: "فَإِذَا رَأَيْت أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْفُسُوقِ يَلْعَبُونَ بِالشَّطْرَنجِ كَانَ إنْكَارُكَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَمِ الْفِقْهِ وَالْبَصِيرَةِ إِلَّا إِذَا نَقَلْتَهُمْ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَى اللّه وَرَسُوله كَرَمْي النشاب وسباق الْخَيْلِ وَنَحْو ذَلَكَ، وَإِذَا رَأَيْت الْفُسَّاقَ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى لَهْوٌ وَلَعِب أَوْ سَمَاع مَكَاء وَتَصْدِيَةٍ فَإِنْ نَقَلْتَهُمْ عَنْهُ إِلَى طَاعَة اللَّه فَهُوَ الْمَرَادُ، وَإِلَّا كَانَ تَرَكَهُمْ عَلَى ذَلكَ خَيْرًا مِنْ أَن تُفْرِغَهُمْ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ مَا هُمْ فِيهِ شاغلا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَكَمَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُسْتَغلا بكتـ الْمَجُون وَنَحْوهَا وَحَفْتَ مَنْ نَقَلَه عَنْهَا انتقاله إلى كتب الْبَدَع وَالضَّلَالِ وَالسِّحْرِ فَدَعَهُ وَكُتُبَهُ الأُولَى (١٦٦). د. وَقَالَ ابْنُ القَيِّم في اعتبار المآل : "إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرَعَ لِأُمَّتِهِ إِيجَابَ إِنَّكَارِ الْمُنْكَرِ ص 132، ليَحْصَلَ بإنكاره من الْمَعْرُوفِ مَا يُحبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسُوعَ إنكَارُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُبْعْضُهُ وَيَمْقُتُ أهْلَهُ، وَهَذَا كَالْإِنْكَار عَلَى الْمُلُوكَ وَالْوَلَاةِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ أَسَاسُ كُلُّ شَرٍّ وَقَتْنَة إلى آخر الدَّهْرِ ، وَقَدْ اسْتَأْذَنَ الصَّحَابَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قِتَالَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وقَتهَا، وَقَالُوا: أَفَلَا تُقَاتِلُهُمْ ؟ فَقَالَ: (لَا، مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ) (١٦٧)، وَقَالَ: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ) (١٦۸) ، وَمَنْ تَأْمَلَ مَا جَرَى عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ رَآهَا مِنْ إِضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ وَعَدَمٍ الصَّبْرِ عَلَى مُنْكَرِ ؛ فَطَلَبَ إزَالَتَهُ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ منه . . . ( ١٦٩)

وَمِنْ رَوَائِعِ مَا قِبْلَ فِي اعْتِبَارِ المَالِ كَلَامُ شَيْخِ الإِسْلَامِ فَيَنْبَغِي لِلْعَالَمِ أَنْ يَتَدَبَرَّ أَنواع هَذِهِ المَسَائِلُ، وَقَدْ يَكُونُ الوَاجِبُ فِي بَعْضِهَا العَفْوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي بَعْضِ الأَشْيَاءِ لا التحليلَ وَالإِسْقَاطِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِ بِطَاعَةٍ فِعْلَا لِمَعْصِيَةٍ أكْبَرَ مِنْهَا، فَيَتْرَكَ الأَمْرَ بها دَفْعاً لوقوع تِلْكَ المَعْصية، مثَلُ أَنْ تُرقّعَ مُذْنباً إلى ذي سُلْطَانٍ ظَالِمٍ فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ فِي العُقُوبَة ما يكون أعظمَ ضَرَرَا مِنْ ذَنْبِهِ، وَمِثْلُ أَنْ يكونَ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَعْضٍ المُذكرات تَرَكَاً لِمَعْرُوفِ هُوَ أعْظَمَ مَنْفَعَةً من ترك مِنْ تَرْكِ المُنكَرات فَيسكت عَن النّهْي خَوْفَاً أَنْ يَسْتَلْزِمَ تَركَ مَا أَمَرَ الله به ورسوله مما هو عِنْدَهُ أَعْظَمَ مِنْ مُجَرَّدِ تَرْكِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ ، فَالعَالِمُ تَارَةً يَأْمُرُ، وَتَارَةً يَنْهَى، وَتَارَةً يُبِيْحُ، وَتَارَةً يَسكُتُ عَنْ الأَمْرِ أَوْ النَّهْي أَوْ الإِبَاحَة؛ كَالأَمْرِ بِالصَّلَاحِ الخَالِصِ أَوْ الرَّاحِحِ أو عَنْ الفَسَادِ الخَالِص أو الرَّاحِحِ ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يُرَبَّحُ الرَّاجِحَ كما تقدم - بحسب الإمكان، فَأَمَّا إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن، إما لجهله، وإما ه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساكَ عَنْ أُمرِهِ ونهيهِ، كَمَا قِيلَ : إِنَّ مِنْ المَسائلِ مَسائل جوابها السكوت، كما سَكَتَ الشَّارِعُ فِي أُوَّلِ الأمر عَنْ الأمر بأشياء والنهى عَنْ أشياء، حَتَّى عَلَى الإسلامُ وَظَهَرَ (١٧٠). إِذَا عَرَفْتَ هَذَا وَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الجِهَادَ وَسِيلَةٌ لِحِفْظِ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالمَالِ، فَعَلَى وَلَاةِ الْأُمُورِ وَالْقَادَةِ والمسئولين أَنْ يَتَأْمَلُوا فِي جِهَادِهِم الماضيْنَ فِيهِ أو المعرُوم عَلَيْهِ، وَمَا يَؤول إِلَيْهِ؛ فَإِنْ كَانَ يَقُودُهُم إِلَى مَقَاصِدِ الشَّرْعِ من الجهاد ولو بالظَّنِّ ، فَلْيَمْضُوا لَمَا عَزَمُوا، وَلْيَسْتَمرُّوا بمَا بَدَلُّوا، وَإِلَّا فَلْيَتَرَبَّصُوا ص ص 137، رَيْنَمَا يَأْتِي عِنْدَهُم هَذَا الظَّن.

فَإِنْ قَالَ قَائِلُهُم نَحْنُ نَظُنُّ أَنْ يَقُودَنَا الجهادُ إلى مقاصدِ الشَّرع التي حَدَّدَ.

أَقولُ : إنكم تتقلدونَ أمَانَةً عَظيمَة وهي أمانة الأمة، وليسَ ما تَقُولُونَ يُدْرَكُ بالادعاء، بل بما يُقَرِّرُ أهْلُ الذِّكْرِ في كُلِّ ما يَتَعَلَّقَ بأمر الجهاد من سياسة واقتصاد وعسكر وسلاح ويتوج هذا قَرَارُ الشَّرْعِ، فَلَا يجوز للقائد أن يكون بمعزل عَنْ أَهْلُ الذكر، ولا يجوز أن يتخذَهُم من الذين يُصانعُونَهُ، ويسارعون في رغائبه وميوله وأهوائه، بل يختارهم أكفاء قادرين متجردين عن الأهواء، وأن يمنحهم الأمن والأمان حتى لا يخشوا سطوته، ويصدقوا في نصحه، وله في سالف الأمة خير عبرة وعظة، وما كان أحدهم يقطع في أمر يحزبه أو طارئة تطرق الأمة حتى يلقيها على أصحاب العلم والبصائر، وما كان يتجاوز ما يرونه امتثالاً لقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (۱۷۱) .

الدليل السادس: مَعلُومٌ أَنَّ الله تَعَالَى شَرَعَ أحكام التكليف مَقدُورَةٌ لَدَى المكلفينَ عِلْمًا وَعَمَلاً، فَمَن كَانَ عَاجزاً عَنْ فَهْمِهَا وَالعِلْمِ بها سَوَاءً لِعَجْزِ فِي ذَاتِهِ كَصِغَرِ أَوْ جُنُونٍ، أو خَارِج عنه كَمَا لَو كَانَ بَعِيداً عَنْهَا وَلمَ يُقَصِّرْ فِي طَلَبِهَا وَالسُّوَالِ عَنْهَا يَسقُطْ حَكْمُهَا عنه؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (۱۷۲)، ولقوله : (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةِ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظُ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفيق) (۱۷۳)، ولأنَّ الغَرَضَ مِنَ التَّكْلِيفِ الطَّاعَةُ وَالامْتِثَالُ، وَمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الفَهْم لَا يُمكنه الامتثال أو كان عاجزاً عن العلم بها فإنه يسقط حُكْمُهَا أو يُخَفِّفُ عنه؛ لقوله تعالى : ولا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا (١٧٤)، وقال في السياق نفسه ولا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ (۱۷٥)، وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (١٧٦) ، وقال تعالى: يُريدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (۱۷۷)، وقال سبحانه: ﴿وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (۱۷۸)، ولقول النبي : (فَإِذَا أَمَرَتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (١٧٩) ، وقوله من حديث عمران بن حُصَيْنٍ (صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطعْ فَعَلَى جَنْب ) (١٨٠) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والحُجَّةُ عَلَى العِبَادِ إِنَّمَا تَقُومُ بِشَيْئَيْنِ، بِشَرْط التمكن من العلم بمَا أَنْزَلَ الله، والقدرة على العمل به، فأَما العَاجِرُ عَنِ العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فَلَا أَمْرَ عَلَيْهِ وَلَا نَهْي، وإذا انقطع العلم ببعض، ص 138، الدِّيْنِ، أَو حَصَلَ العَجْرُ عَنْ بَعْضِهِ؛ كَانَ ذَلِكَ فِي حَقَ العَاجِزِ عن العلم أو العَمَلِ بقولِهِ كَمَنْ انْقَطَعَ عَنْ العِلْمِ بجميعِ الدِّيْنِ أو عَجَزَ عَن جَمِيعِهِ – كالمجنون مثلاً - وهذه أوقاتُ الفترات، فإذا حَصَلَ مَنْ يَقُومُ بالدين منَ الْعَلَمَاءِ أَوِ الْأُمَرَاءِ أَوِ مَجْمُوعِهِمَا كان بَيَانهُ لِمَا جَاءَ به الرَّسُول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أنَّ الرسول لا يبلغ إلا ما أمْكَنَ عِلْمُهُ والعملُ بِهِ، ولم تَأْت الشريعةُ جملَةً كما يقالُ : إذا أردت أن تُطَاعَ فَأْمُرْ بِمَا يُسْتَطَاعُ. فكذلك المجد لدينه والمُحْيِي لِسُنَّته، لا يُبَلِّغُ إِلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالعَمَلُ به، كما أَنَّ الدَّاخِلَ في الإسلام لا يُمكن حين دُخُوله أن يُلَقَّنَ جَميعَ شَرَائعه، ويُؤْمَرَ بِهَا كُلِّهَا. وكذلك التائبُ مِنَ الذنوب، والمتعلم، والمسترشد ، لا يَحْمنُ في أَوَّلِ الأمر أن يُؤْمَرَ بجميع الدِّينِ وَيُذْكَرَ لَهُ جَمِيْعُ العلم، فإنه لا يُطيِّقُ ذَلِكَ، وَإِذَا لم يُطِقْهُ لَمْ يَكُن وَاجِبَا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الحَالِ، وإذا لم يكن وَاجِبَاً لم يكن للعَالِمِ والأَميرِ أَن يُوْحِبَهُ جَمِيْعَهُ ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يُمكنُ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ إِلَى وَقتِ الإِمكانِ كما عَلَى الرسولُ عَمَّا عَلَى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فَرَضنا انتفاء هذا الشرط فَتَدَبَّرَ هَذَا الْأَصلَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ.

ومِنْ هُنَا يتبينُ سُقُوطُ كثير من هذه الأشياء وإنْ كَانَتْ وَاحِبَةً أَو مُحَرَّمَةً فِي الأصلِ ؛ لِعَدَمِ إِمكانِ البَلَاغِ الذي تقومُ بِهِ حُجَّةَ اللهِ في الوجوب أو التحْرِيمِ، فَإِنَّ الْعَجْرَ مُسْقِطٌ لِلأَمْرِ وَالنَّهْي وَإِنْ كَانَ وَاجِبَاً في الأصل (۱۸۱).

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَإِنَّ الجِهَادَ مِنْ جُمْلَة أحكام التكليف الَّتي بأنيْطَ حُكْمُها بالقدرة والطَّاقَةِ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ وَجَبَ حُكْمُهُ وَإِذَا فُقِدَتْ سَقَطَ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَسْقَطَهُ عَنْ ذَوِي الْأَعْذَارِ المَائِعَةِ فقال سبحانه: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى المَريض حَرَجٌ وَمَنْ يُطع الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أليما (۱۸۲)، وقال تعالى: وَلَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٍ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوكَ لِتَحْمَلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعِيْنُهُمْ تَفِي مِنَ الدَّمْعِ حَزَنَا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخوالف وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (۱۸۳) . ص 139،

وقد أَسْقَطَهُ عَنْ نَبِيِّه ل وهو بمكة لعجزه وأَصْحَابِهِ عَنْ أَسْبَابِ الْقُوَّةَ المَادِيَّةِ والبشرية التي تنهض في مواجهة قريش وعليه فمتى استحكم بالناس عَجْرٌ لم يتمكنوا مَعَهُ مِنْ مُوَاجَهَةِ عَدُوِّهِمْ سَقَط حُكمُ الجهَادِ عَنْهُم حَتى يَزُولُ العَجْرُ وَ القُوَّةُ، وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ لَّا يَسْتَكِيْنُوا لَذَلكَ، بَلْ يَتَسَبَّثُوا بِأَسْبَابِ القُوَّةِ فِي أَنفُسِهِم وَفِي شَوْكَتهم امتثالاً لقوله تعالى: ﴿وَأُعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ ترْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُم يعلمُهُمْ (١٨٤) قال الشيخ العثيمين : " لابُدَّ فيه من شَرط، وهو أَنْ يَكُونَ عِنْدَ المسلمين قُدْرَةً وقوة يستطيعون بها القتال، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِمْ قَدْرَة فَإِنَّ إقحام أَنفُسِهِم فِي القِتالِ إِلقاء بأنفسهم إلى التهْلُكَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجب الله سبحانه وتعالى على المسلمين القتال وهم مكة؛ لأنَّهم عاجزون ضعفاءُ، فَلَمَّا هَاجَرُوا إِلى المَدِينَة وَكَوَّتُوا الدَّولة الإسلامية وَصَارَ لهم شَوَكَةً أُمِرُوا بِالْقِتَالِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ، وَإِنَّا سَقَطَ عَنْهُمْ كَسَائِرِ الواجبات؛ لأنَّ جميع الواجبات يُشترط فيها القدرة، لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ ما استطعتم ، وقوله تعالى : ولا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا (١٨٥) .

الدليل السابع: قال العز بن عبد السلام: اجتهاد الإمَام عَلَى الرَّعِيَّة مَنُوطٌ في بالمصلحة".

من المعلوم بالنصوص الوافرة أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُكَرِّمْ وَليَّ الأَمْرِ لذَاتِه، بَلْ أناط التكريم بمدى امتثاله للْحَقِّ وَتَشَبته بِالْعَدْلِ، فَإِنْ فَرَّطَ وَضَيَّعَ لَحقَهُ الذُّمُّ وَالوَعِيْدُ، هَاكَ بَعْضٍ مَا يُثبت ذلكَ:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَجلسًا إِمَامٌ عَادِلٌ وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللهِ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ جَائِرٌ) (١٨٦)

وعن عوف بن مالك قال : قال رسول الله : (إِن شَئْتُمْ أَنْبَاتُكُمْ عَن الإِمَارَةِ وَمَا هِيَ فَنَادَيْتُ بِأَعَلَى صَوْتِي ثَلَاثَ مَرَّات: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ الله ؟، قَالَ: (أُولُهَا: مَلامَةً، وَثَانِيهَا: نَدَامَةٌ ، وثَالِتُهَا: عَذَابٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ عَدَلَ، وَكَيْفَ يَعْدِلُ مع قرابته؟) (۱۸۷).

وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله : (ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُوم يَرْفَعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ وَعِزَّتِيلَ انْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حين) (۱۸۸).

وعنه قال: قال رسول الله : سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللهُ فِي ظلّه يَوْمَ لَا ظَلَّ إِلَّا الله ظَلَّهُ : الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌ نَشَأُ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَل وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةً ذَاتُ مَنْـصب وَجَمَالَ فقال اني أخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينَهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) (۱۸۹) .

وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِندَ الله عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُور عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكلْتَا يَدَيْهِ يَمِينُ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا) (١٩٠).

وعن أبي موسى الأشعري له أنه قال : قال رسول الله : (إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ الله إِكْرَامَ ذي الشَّيْبَة الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السَّلْطَانِ الْمُقْسِط) (١٩١).

وعن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفَانِ مِنْ أُمَّتِي لا تَنَالُهُمَا شَفَاعَتِي: سَلَّطَانَ ظَلُومٌ عَشُومٌ ، وعَال في الدّين يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ فَيَتَبَرأُ مِنْهُمْ) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : (أَرْبَعَةٌ يَبْغُضُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْبَيَّاعُ الْحَطَّافُ، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ، وَالشَّيْخُ الزَّانِي، وَالْإِمَامُ الْجَائِرُ ) (١٩٣) . وعن بريدة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجَلٌ عَرَفَ الْحَقِّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلِ فَهُوَ فِي النار ) (١٩٤).

وعن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثٌ أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي : الاستسقَاءُ بِالْأَنْوَاءِ، وَحَيْفَ السُّلْطَانِ، وَتَكْذِيبُ بِالْقَدَرِ ) (١٩٥)

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُوشِكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةً أَنْ تَرَى قَوْمًا فِي أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَدْنَابِ الْبَقَرِ يَعْدُونَ فِي غَضَبِ اللهِ وَيَرُوحُونَ فِي سَخَطِالله) (١٩٦). ص 141،

إذا عرفت أن الإمام بعدله وامتثاله شَرْعَ رَبِّهِ ، فَإِنَّ هَذِهِ القَاعِدَةَ العَظيمة الجَدْوَى الوَاسِعَةَ المنفعة، لتَعلَّقها بأمَانَة الرَّعيَّة أَفَادَت أَنَّ سُلْطَةً وَلِيِّ الْأَمْرِ عَلَى الرَّعِيَّةِ واجْتِهَادَهُ فِي شَوْنِهَا مُقَيَّد بالأنفعِ وَالأَصْلَح ، ولَا يُبَرَّرُ لَهُ أَنْ كَانَ ذَا سُلْطَة عليا أَن يَجْتَهِدَ فيهم بالهوى وَحَطّ النَّفْسِ ، أو يندفع بِالْجِزَافِ مِنْ غَيْرِ تَرَيَّتْ وَتَأْمُّلٍ واستنارة بالأكفاءِ مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ فِي كُلِّ عِلْمٍ.

كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ فِي الرَّعِيَّة بقناعَةِ المستكبر الذي لا يَرَى إلا نفسه، ولا مُعَقَبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا مُراجع لِقَرَارِهِ، فَهَذَا فَهُمْ سَبْعِيٌّ عُدْوانٌ، إِذْ لَا عِصْمَةَ إِلَّا فـي الوحيين ولا إطلاق إلا في طاعة الله وَرَسُوله صلى الله عليه وسلم وَمَا سوى ذلك فطاعة مقيدة يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ سُبْحَانَه أو يحقق مصلحة الأمة، يُقَرِّرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا

وبيانه: أَنَّ الله تعالى أَسْنَدَ الفِعَلَ (أَطِيعُوا إِلَى اسْمِ الجَلَالَةِ وَإِلَى الرَّسُولِ إيذاناً بِأَنَّ طَاعَتَهُمَا مُطْلَقَةً لَا خِيَرَةَ لِلْمَرْءِ فِيْهَا؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلَا مُؤْمِنَةٌ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (١٩٨)

وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٩٩). وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطع اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبَهُ عَذَابًا أَلِيمًا (٢٠٠). وَلَمْ يُسْئِدْهُ إِلَى أُولِي الأَمْرِ دَلَالَةَ على أَنَّ طَاعَتَهُمُ مُقَيَّدَة بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ دُونَ الباطل والظلم.

وَهَذَا ظَاهِرٌ في السُّنَّة، فَإِنَّ أحَادِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصَّ في تقييد طاعة وَلِيِّ الأَمْرِ بالمعروفِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةَ وَمَا نَشَأَ عَنْهُمَا مِنْ مَصَادِرِ الشْرِيْعِ، وَمَا خَالَفَ فَلَا وَلَا طَاعَةً . من ذلك حديث عبد الله بن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَة فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ) ص 142،

وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (سَيَليكُمْ بَعْدى ولاة، فَيَليكُمُ البَرَّ بـبره، وَيَلِيْكُم الْفَاجِرُ بِفُجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الْحَقِّ، وَصَلُّوا وَرَاءَهُمْ، فَإِنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ) (۲۰۲) . (٢٠٢) أُمّ الحُصَيْن أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ

وَهُوَ يَقُولُ: (وَلَوْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا ) (۲۰۳) . وعَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) (٢٠٤). وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: (عَادَكَ اللهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَالَ: (أَمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي لَا يَقْتَدُونَ وَلَا يَسْتَنونَ بِسُنَتِي فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بكَذبهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظَلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْت مِنْهُمْ وَلَا يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مِني وَأَنَا مِنْهُمْ وَسَيَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ الصَّوْمُ جَنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ وَالصَّلَاةُ قُرْبَانٌ أَوْ قَالَ بُرْهَانٌ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُخت، النّارُ أَولَى بهِ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ النَّاسُ غَادِيَانِ فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا) (٢٠٥) .

وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (مَنْ الْتَمَسَ رِضا الله بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُوْنَةَ النَّاسِ وَمَنْ الْتَمَسَ رِضا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى الناس) (٢٠٦) . وَعَن أبي بكر الله قال: "أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللهَ فِيكُم، فَإِذَا عَصَيْتُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُم).

عَلَى أَنَّ مَدْلُولَ القَاعِدَة يَسْتَوْعِب جَمِيْعَ اجتهادات الإمامِ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَمِنْ جمَلَتِهَا اجتهَادُهُ فِي الجِهَادِ والمَقَاوَمَةِ مِنْ جِهَةٍ طَبِيعَته وأسلوبه وبدءه أو تأخيره، وَتَوْسَيْعَهِ أَوْ تَصْدِيقِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَتَعَيَّنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْطَلِقَ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِبَاعِثِ إِدرَاكِ الأنفع والأصلح للأُمَّةَ دِينَا وَنَفْساً وَمَالَا، وَيَتَحَرَّى تَحقِيقَ ذَلِكَ جَهْدَهُ، وَلَوْ بَدَا لِلرعية تَعَسُّقُهُ أَوْ زَيْغُهُ وَصَلَالُهُ، أَوْ تَهَوَّرُهُ وَانْدِفَاعَهُ، أَوْ عَجَرُوا عَنْ امْتَثَالِ أَمْرِهِ لَمْ تَلْزَمْهُم طَاعَتُه مَا لَم يُفْضِ ذَلِكَ إِلى شَرِّ أَعْظَم، وحديث عَلِيٍّ صلى الله عليه وسلم فَصَلِّ في الموضوع، قال: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ الْأَنصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُطِيعُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا ص 143،  جَمَعَتُمْ حَطَبًا وَأَوقَنتُمْ نَارًا ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا فَجَمَعُوا حَطَبًا فَأَوقَدُوا نَارًا فَلَمَّا هَمُّوا بالدُّخُولِ فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِرَارًا مِنْ النَّارِ أَفَنَدْخُلُهَا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتْ النّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوف) (۲۰۷)، أَمَّا عِندَ العَجْزِ فَالأَدلَّةُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قَوْلُه تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأمْر فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٢٠٩). وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَيَقُولُ لَنَا: (فِيْمَا اسْتَطَعْتُمْ) (٢١).

وعن جرير له قال : بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقْتَنِي : فِيْمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنَّصْحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) (۲۱۱) . وَعَنْ أُمَيْمَةَ بِئْتِ رَقَيْقَةَ قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نِسْوَة مِنْ الْأَنْصَارِ تُبَايِعُهُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ تُبَايِعَكَ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِالله شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِي، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَان نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيكَ في مَعْرُوفِ، قَالَ: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ قَالَت قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا هَلُمَّ تُبَايِعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنِّي لَا أَصَافِحَ النِّسَاءَ ، إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةِ كَقَولِي لِامْرَأَةِ وَاحِدَةٍ أَوْ مثل قَوْلِي لِامْرَأَة وَاحِدَة) (۲۱۲).

إِذَا عَرَفَت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْجِهَادَ دَاخِل فِي هَذَا العُمُومِ، وَأَنَّهُ لَا يُشْرَعُ إِلَّا عِنْدَ تَحقَّق القُدْرَة وَمَظَنَّة المَقْصد فَلَوْ دَعَا الإمامُ إلى الجهَادِ وَرَأَى أَهْلُ الحَلِّ وَالعَقْد فيه تَهَوْراً وَانْدِفَاعَاً، أَوْ عَجْرًا مَانِعَاً كَفُرْقَة فِي الأُمَّةِ وَاخْتِلَافِ، أَوْ ضَعْفِ فِي الشَّوْكَةِ وَالسَّلَاحِ يَقُودُ إِلَى المَفَاسِدِ وَالْهَرَائِمِ، لَا تَلْزَمُ طَاعَتُهُ عِنْدَئِدَ، فَإِن كَانَ هَذَا فِي حَقٌّ وَلَاةٍ الْأَمْرِ قَادَةِ الوِلَايَاتِ وَالْأَمْصَارِ وَالبِلادِ، فَهُوَ فِي حَق قَادَةِ الْأَحْزَابِ وَالحَرَكَاتِ وَالقَبَائِلِ أُولَى، وَذَلِكَ أَنَّ رَكْبَتَهُم أَنَى ، وَمَسؤوليْتَهُم أَقَلُّ، وَأَمَانَتَهُم أَخَفَ. والله أعلم.

بقلم: أ.د. سلمان بن نصر الداية.

أستاذ الفقه وأصوله، بكلية الشريعة والقانون، بالجامعة الإسلامية، غزة، فلسطين.

 ---------

لتحميل نص المقال كاملا بهوامشه، كما تم نشره في مجلة البحوث الإسلامية، العدد 13، مارس 2017، من هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق